فصل: تفسير الآيات رقم (158- 161)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏131- 137‏]‏

‏{‏وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ‏(‏131‏)‏ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏132‏)‏ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏133‏)‏ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏134‏)‏ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏135‏)‏ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ‏(‏136‏)‏ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏137‏)‏‏}‏

ولما كان الفائز بالمطالب قد لا يوقي المعاطب قال تعالى‏:‏ ‏{‏واتقوا النار‏}‏ أي إن لم تكونوا ممن يتقيه سبحانه لذاته ‏{‏التي أعدت‏}‏ أي هيئت ‏{‏للكافرين *‏}‏ أي بالله باستحلال الربا وغيره بالذات، وللكافرين بالنعمة عصياناً بالعرض‏.‏ ولما كان الفائز السالم قد لا يكون مقرباً قال اتباعاً للوعيد بالوعد‏:‏ ‏{‏وأطيعوا الله‏}‏ ذا الجلال والإكرام ‏{‏والرسول‏}‏ أي الكامل في الرسلية كمالاً ليس لأحد مثله، أي في امتثال الأوامر واجتناب النواهي بالإخلاص ‏{‏لعلكم ترحمون *‏}‏ أي لتكونوا على رجاء وطمع في أن يفعل بكم فعل المرحوم بالتقريب والمحبة وإنجاز كل ما وعد على الطاعة من نصره وغيره‏.‏

ولما نهى عما منع النصر بالنهي عن الربا، المراد بالنهي عنه الصرف عن مطلق الإقبال على الدنيا، المشار إلى ذمها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 14‏]‏، وأمر بما تضمن الفوز والنجاة والقرب، وكان ذلك قد يكون مع التواني أمر بالمسارعة فيه توصلاً إلى ما أعد للذين اتقوا الموعودين بالنصر المشروط بتقواهم وصبرهم في قوله‏:‏ ‏{‏بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 125‏]‏، ‏{‏وإن تصبرو وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 120‏]‏ الموصوفين بما تقدم في قوله تعالى في المقصد الثالث من دعائم هذه السورة ‏{‏قل أأنبئكم بخير من ذلك للذين اتقوا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 15‏]‏، على وجه أبلغ من ذلك بالمسارعة إلى ما يوجب المغفرة من الرب اللطيف بعباده، وإلى ما يبيح الجنة أعدت للمتقين الذين تقدمت الإشارة إليهم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتقوا الله لعلكم تفلحون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 130‏]‏ الذين يتخلون عن الأموال وجميع مصانع الدنيا فلا تمتد أعينهم إلى الازدياد من شيء منها ويتحلون بالزهد فيها والإنفاق لها في سبيل الله في مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجهاد وغيره في السراء والضراء، لا بالإقبال على الدنيا من غنيمة أو غيرها إقبالاً يخلّ ببعض الأوامر، وبالصبر بكظم الغيظ عمن أصيب منهم بقتل او جراحة، والعفو عمن يحسن العفو عنه في التمثيل بالقتل في أحد أو غير ذلك إرشاداً إلى أن لا يكون جهادهم إلا غضباً لله تعالى، لا مدخل فيه لحظ من حظوظ النفس أصلاً، وبالصبر أيضاً على حمل النفس على الإحسان إلى من أساء بذلك أو غيره كما فعل صلى الله عليه وسلم في فتح مكة بعد أن كان حلف ليمثلن بسبعين منهم مكان تمثيلهم بسيد الشهداء أسد الله وأسد رسوله عمه حمزة ابن ساقي الحجيج عبد المطلب، فإنه وقف صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم الذي كان أعظم أيام الدنيا الذي أثبت فيه نور الإسلام عل مشرق الأرض ومغربها، فهزم ظلام الكفر وضرب أوتاده في كل قطر على درج الكعبة وهم في قبضته فقال‏:‏

«ما تظنون إني فاعل بكم يا معشر قريش‏؟‏ قالوا‏:‏ خيراً‏!‏ أخ وابن أخ كريم، قال‏:‏ اذهبوا فأنتم الطلقاء»، وبالاستغفار عنعمل الفاحشة من خذلان المؤمنين أو أكل الربا أو التولي عن قتال الأعداء، وعن ظلم النفس من محبة الدنيا الموجب للإقبال على الغنائم التي كانت سبب الانهزام أو يغر ذلك مما أراد الله تعالى فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وسارعوا‏}‏ أي بأن تفعلوا في الطاعات فعل من يسابق خصماً ‏{‏إلى مغفرة من ربكم‏}‏ أي المحسن إليكم بإرسال الرسل وإنزال الكتب بعمل ما يوجبها من التوبة والإخلاص وكل ما يزيل العقاب ‏{‏وجنة‏}‏ أي عظيمة جداً بعمل كل ما يحصل الثواب، ثم بين عظمها بقوله‏:‏ ‏{‏عرضها السماوات والأرض‏}‏ أي كعرضهما، فكيف بطولها، ويحتمل أن يكون كطولهما، فهي أبلغ من آية الحديد- كما يأتي لما يأتي، وعلى قراءة ‏{‏سارعوا‏}‏ بحذف الواو يكون التقدير‏:‏ سارعوا بفعل ما تقدم، فهو في معناه، لا مغائر له‏.‏

ولما وصف الجنة بين أهلها بقوله‏:‏ ‏{‏أعدت‏}‏ أي الآن وفرغ منها ‏{‏للمتقين *‏}‏ وهم الذين صارت التقوى شعارهم، فاستقاموا واستمروا على الاستقامة، ثم وصف المتقين بما تضمن تفصيل الطاعة المأمور بها قبل إجمالاً على وجه معرف بأسباب النصر إلى آخر ما قص من خبر الأنبياء الماضين ومن معهم من المؤمنين بادئاً بما هو أشق الأشياء ولا سيما في ذلك الزمان من التبر ومن المال الذي هو عديل الروح فقال‏:‏ ‏{‏الذين ينفقون‏}‏ أي مما آتاهم الله، وهو تعريض بمن أقبل على الغنيمة ‏{‏في السراء والضراء‏}‏ أي في مرضاة الله في حال الشدة والرخاء‏.‏ ولما ذكر أشق ما يترك ويبذل أتبعه أشق ما يحبس فقال‏:‏ ‏{‏والكاظمين‏}‏ أي الحابسين ‏{‏الغيظ‏}‏ عن أن ينفذوه بعد أن امتلؤوا منه‏.‏

ولما كان الكاظم غيظه عن أن يتجاوز في العقوبة قد لا يعفو حثه على العفو بقوله‏:‏ ‏{‏والعافين‏}‏ وعمم في الحكم بقوله‏:‏ ‏{‏عن الناس‏}‏ أي ظلمهم لهم ولو كانوا قد قتلوا منهم أو جرحوهم‏.‏ ولما كان التقدير‏:‏ فإن الله يحبهم لإحسانهم عطف عليه تنويهاً بدرجة الإحسان قوله‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال ‏{‏يحب المحسنين *‏}‏ أي يكرمهم بأنواع الإكرام على سبيل التجديد والاستمرار‏.‏

ولما أخبر أنها للمحسنين إلى الغير ومن قاربهم أخبر أناه لمن دونهم في الرتبة من التائبين المحسنين إلى أنفسهم استجلاباً لمن رجع عن أحد من المنافقين ولغيرهم من العاصين فقال‏:‏ ‏{‏والذين إذا فعلوا‏}‏ أي باشروا عن علم أوجهل فعله ‏{‏فاحشة‏}‏ أي من السيئات الكبار ‏{‏أو ظلموا أنفسهم‏}‏ أي بأي نوع كان من الذنوب، لتصير الفاحشة موعوداً بغفرانها بالخصوص وبالعموم ‏{‏ذكروا الله‏}‏ أي بما له من كمال العظمة فاستحيوه وخافوه ‏{‏فاستغفروا‏}‏ الله، أي فطلبوا المغفرة بالتوبة بشرطها ‏{‏لذنوبهم‏}‏ أي فإنه يغفر لهم لأنه غفار لمن تاب‏.‏

ولما كان هذا مفهماً لأنه تعالى يغفر كل ذنب أتبعه تحقيق ذلك ونفي القدرة عليه عن غيره، لأن المخلوق لا يمضي غفرانه لذنب إلا إذا كان مما شرع الله غفرانه، فكان لا غافر في الحقيقة إلا الله قال مرغباً في الإقبال عليه بالاعتراض بين المتعاطفين‏:‏ ‏{‏ومن يغفر الذنوب‏}‏ أي يمحو آثارها حتى لا تذكر ولا يجازى عليها ‏{‏إلا الله‏}‏ أي الملك الأعلى‏.‏ ولما كان سبحانه وتعالى قد تفضل برفع القلم عن الغافل قال‏:‏ ‏{‏ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون *‏}‏ أي إنهم على ذنب‏.‏

ولما أتم وصف السابقين وهم المتقون واللاحقين وهم التائبون قال- معلماً بجزائهم الذين سارعوا إليه من المغفرة والجنة مشيراً إليهم بأداة البعد تعظيماً لشأنهم على وجه معلم بأن أحدأً لا يقدر الله حق قدره-‏:‏ ‏{‏أولئك‏}‏ أي العالو الرتبة ‏{‏جزآؤهم مغفرة‏}‏ أي لتقصيرهم أو لهفواتهم أو لذنوبهم، وعظمها بقوله‏:‏ ‏{‏من ربهم‏}‏ أي المسحن إليهم بكل إحسان، وأتبع ذلك للإكرام فقال‏:‏ ‏{‏وجنات‏}‏ أيّ جنات، ثم بين عظمها بقوله‏:‏ ‏{‏تجري من تحتها الأنهار‏}‏ حال كونكم ‏{‏خالدين فيها‏}‏ هي أجرهم على عملهم ‏{‏ونعم أجر العاملين *‏}‏ هي، هذا على تقدير أن تكون الإشارة لجميع الموصوفين، وإن كانت للمستغفرين خاصة فالأمر واضح في نزول رتبتهم عمن قبلهم‏.‏

ولما فرغ من بيان الزلل الذي وقع لهم به الخلل، والترهيب مما يوقع فيه، والترغيب فيما ينجى منه في تلك الأساليب التي هي أحلى من رائق الزلال ولذيذ الوصال بعد طول المطال أخذ يشجعهم على الجهاد لذوي الفساد، فبدأ بالسبب الأقوى، وهو الأمر بمشاهدة مصارع من مضى من المكذبين برؤية ديارهم وتتبع آثارهم مع أنهم كانوا أشد خلقاً وأقوى همماً وأكثر عدداً وأحكم عدداً، فقال تعالى معللاً للأمر بالمسارعة إلى المغفرة‏:‏ ‏{‏قد خلت‏}‏ ولما كان العلم بالقريب في الزمان والمكان أتم، وكان الذين وقعت فيهم السنن جميع أهل الأرض، ولا في جميع الزمان، أثبت الجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبلكم‏}‏ اي فلا تظنوا بما أملى لهم بهذه الإدالة أن نعمته انقطعت عنهم ‏{‏سنن‏}‏ أي وقائع سنها الله في القرون الماضية والأمم الخالية في المؤمنين والمكذبين، وأحوال وطرائق كانت للفريقين، فتأسوا بالمؤمنين وتوقعوا لأعدائكم مثل ما للمكذبين، فانظروا وأنعموا التأمل في أحوال الفريقين وإن لم يحصل ذلك إلا بالسير في الكد والتعب الشديد ‏{‏فسيروا في الأرض‏}‏ أي للاتعاظ بأحوال تلك الأمم برؤية آثارهم لتضموا الخير إلى الخير، وتعتبروا من العين بالأثر، وتقرنوا بين النقل والنظر، ولما كان الرجوع عن الهفوة واجباً على الفور عقب بالفاء قوله‏:‏ ‏{‏فانظروا‏}‏ أي نظر اعتبار، ونبه على عظمة المنظور فيه بأنه أهل لأن يستفهم عنه لأنه خرج عن العوائد فتعاظم إشكاله فقال‏:‏ ‏{‏كيف كان عاقبة‏}‏ أي آخر أمر ‏{‏المكذبين *‏}‏‏.‏

ولما تكفلت هذه الجمل بالهداية إلى سعادة الدارين نبه على ذلك سبحانه وتعالى بقوله على طريق الاستفتاح‏:‏ ‏{‏هذا بيان‏}‏ أي يفيد إزالة الشبه ‏{‏للناس‏}‏ أي المصدقين والمكذبين ‏{‏وهدى‏}‏ أي إرشاد بالفعل ‏{‏وموعظة‏}‏ أي ترقيق ‏{‏للمتقين*‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏138- 143‏]‏

‏{‏هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏138‏)‏ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏139‏)‏ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ‏(‏140‏)‏ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ‏(‏141‏)‏ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ‏(‏142‏)‏ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ‏(‏143‏)‏‏}‏

ولما أمرهم بالمسارعة وأتبعها علتها ونتيجتها نهاهم عما يعوق عنها من قبل الوهن الذي عرض لهم عند رؤيتهم الموت فقال- ويجوز أن يعطف على ما تقديره‏:‏ فتبينوا واهتدوا واتعظوا إن كنتم متقين، وانظروا أخذنا لمن كان قبلكم من أهل الباطل وإن كان لهم دول وصولات ومكر وحيل-‏:‏ ‏{‏ولا تهنوا‏}‏ أي في جهاد أعدائكم الذين هم أعداء الله، فالله معكم عليهم، وإن ظهروا يوم أحد نوع ظهور فسترون إلى من يؤول الأمر ‏{‏ولا تحزنوا‏}‏ أي على ما أصابكم منهم ولا على غيره مما عساه ينوبكم ‏{‏و‏}‏ الحال أنكم ‏{‏أنتم الأعلون‏}‏ أي في الدارين ‏{‏إن كنتم مؤمنين *‏}‏ أي إن كان الإيمان- وهو التصديق بكل ما يأتي عن الله- لكم صفة راسخة، فإنهم لا يهنون؛ لأنكم بين إحدى الحسنيين- كما لم يهن من سيقص عليكم نبأهم ممن كانوا مع الأنبياء قبلكم لعلوكم عدوكم، أما في الدنيا فلأن دينكم حق ودينهم باطل، ومولاكم العزيز الحكيم الذي قد وعدكم الحق الملكَ الكبير لمن قتل، والنصر والتوزر لمن بقي، وهو حي قيوم، ولا يخفى عليه شيء من أحوالكم، فهو ناصركم وخاذلكم، وأما في الآخرة فلأنكم في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وهم في النار عند ملائكة العذاب الغلاظ الشداد أبداً‏.‏

ولما نهاهم عما تقدم وبشرهم سلاهم وبصرهم بقوله‏:‏ ‏{‏إن يمسسكم قرح‏}‏ أي مصيبة بإدالتهم عليكم اليوم ‏{‏فقد مس القوم‏}‏ أي الذين لهم من قوة المحاولة ما قد علمتم، أي في يوم أحد نفسه وفي يوم بدر ‏{‏قرح مثله‏}‏ أي في مطلق كونه قرحاً وإن كان أقل من قرحكم في يوم أحد وأكثر منه في يوم بدر، على أنه كما أنه ظفرهم- بعدما أصابهم وأنكأهم يوم بدر بالزهد الذي ليس بعده وهن- بقتل مثل من قتل منكم وأسر مثلكم، ويوم أحد بالقتل والهزيمة أول النهار وهم أعداؤه، فهو جدير بأن يظفركم بعد وهنكم وأنتم أولياؤه، فكما لم يضعفهم وهنهم وهم على الباطل فلا تضعفوا أنتم وأنتم على الحق، ترجون من الله ما لا يرجون، فقد أدلناكم عليهم يوماً وأدلناهم عليكم آخر ‏{‏وتلك الأيام‏}‏ ولما نبه على تعظيمها بأداة البعد، وكانت إنما تعظم بعظم أحوالها ذكر الحال المنبه عليها بقوله‏:‏ ‏{‏نداولها بين الناس‏}‏ أي بأن نرفع من نشاء تارة ونرفع عليه أخرى‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ ليدال على من كانت له الدولة، فيعلم كل أحد أن الأمر لنا بلا شريك ولا منازع عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وليعلم الله‏}‏ أي المحيط بجميع الكمال ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ أي بتصديق دعوى الإيمان بنية الجهاد فيكرمهم، ومعنى ‏{‏ليعلم‏}‏ أنه يفعل فعل من يريد علم ذلك بأن يبرز ما يعلمه غيباً إلى عالم الشهادة ليقيم الحجة على الفاعلين على ما يتعارفه الناس بينهم ‏{‏ويتخذ منكم شهداء‏}‏ أي بأن يجعل قتلهم عين الحياة التي هي الشهادة، لا غيبة فيها، فهو سبحانه وتعالى يزيد في إكرامهم بما صدقوا في إيمانهم بأن لا يكونوا مشهوداً عليهم أصلاً بفتنة في قبورهم ولا غيرها ولا يغفلوا بخوف ولا صعق ولا غيره، فإن الله يحب المؤمنين، وليعلم الذين ظلموا ويمحق منهم أهل الجحد والاعتداء ‏{‏والله‏}‏ أي الملك الأعلى ‏{‏لا يحب الظالمين *‏}‏ أي الذين يخالف فعلهم قولهم، فهو لا يستشهدهم، وإنما يجعل قتلهم أول خيبتهم وعذابهم، وفيه بشارة في ترغيب بأنه لا يفعل مع الكفرة فعل المحب، لئلا يحزنوا على ما أصابهم، ونذارة في تأديب بأنهم ما أخذوا إلا بتضييعهم الثغر الذي أمرهم به من التزموا طاعته وأمر الله بها في المنشط والمكره بحفظه، وأقبلوا على الغنائم قبل أن يفرغوا من العدو، والآية من الاحتباك‏:‏ إثبات الاتخاذ أولاً دال على نفيه ثانياً، وإثبات الكراهة ثانياً دال على المحبة أولاً‏.‏

ولما قدم التنفير من الظلم دلالة على الاهتمام به أكمل ثمرات المداولة بقوله‏:‏ ‏{‏وليمحص‏}‏ أي وليطهر ‏{‏الله‏}‏ أي ذو الجلال والإكرام ‏{‏الذين أمنوا‏}‏ أي إن أصيبوا، ويجعل مصيبتهم سبباً لقوتهم ‏{‏ويمحق الكافرين *‏}‏ أي شيئاً فشيئاً في تلك الحالتين بما يلحقهم من الرجس، أما إذا كانت لهم فبالنقص بالقوة بالبطر الموجب للعكس، وأما إذا كانت عليهم فبالنقص بالفعل الموجب للقطع بالنار‏.‏ ولما كان السياق يرشد إلى أن المعنى‏:‏ أحسبتم أنه لا يفعل ذلك، عادله بقوله‏:‏ ‏{‏أم حسبتم‏}‏ أي يا من استكره نبينا على الخروج في هذا الوجه ‏{‏أن تدخلوا الجنة‏}‏ أي التي أعدت للمتقين ‏{‏ولما يعلم الله‏}‏ أي يفعل المحيط علماً وقدرة بالامتحان فعل من يريد أن يعلم ‏{‏الذين جاهدوا منكم‏}‏ أي أوقعوا الجهاد بصدق العزيمة، ثم أمضوه بالفعل تصديقاً للدعوى ‏{‏ويعلم الصابرين *‏}‏ أي الذين شأنهم الصبر عند الهزاهز والثبات عند جلائل المصائب تصديقاً لظاهر الغرائز، فإن ذلك أعظم دليل على الوثوق بالله ووعده الذي هو صريح الإيمان‏.‏

ولما أرشد السياق إلى أن التقدير‏:‏ فلقد كنتم تقولون‏:‏ لئن خرجت بنا ليبتلين الله بلاء حسناً، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ولقد‏}‏ ويجوز أن يكون حالاً من فاعل ‏{‏حسبتم‏}‏ ‏{‏كنتم تمنون الموت‏}‏ أي الحرب، عبر عنها به لأنها سببه، ولقد تمنى بعضهم الموت نفسه بتمني الشهادة ‏{‏من قبل أن تلقوه‏}‏ أي رغبة فيما أعد الله للشهداء ‏{‏فقد رأيتموه‏}‏ أي برؤية قتل إخوانكم، والضمير يصلح أن يكون للموت المعبر به عن الحرب، وللموت نفسه برؤية أسبابه القريبة، وقوله‏:‏ ‏{‏وأنتم تنظرون *‏}‏ بمعنى رؤية العين، فهو تحقيق لإرادة الحقيقة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏144- 147‏]‏

‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ‏(‏144‏)‏ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ‏(‏145‏)‏ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ‏(‏146‏)‏ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏147‏)‏‏}‏

ولما كان التقدير‏:‏ فانهزمتم عندما صرخ الشيطان كذباً‏:‏ ألا إن محمداً قد قتل‏!‏ ولم يكن لكم ذلك فإنكم إنما تعبدون رب محمد الحي القيوم وتقاتلون له، وأما محمد فما هو بخالد لكم في الدنيا قال‏:‏ ‏{‏وما محمد إلا رسول‏}‏ أي من شأنه الموت، لا إله، ثم قرر المراد من السياق بقوله‏:‏ ‏{‏قد خلت‏}‏ أي بمفارقة أممهم، إما بالموت أو الرفع إلى السماء، ولما كان المراد أن الخلو منهم إنما كان في بعض الزمان الماضي لما مضى أثبت الجار فقال‏:‏ ‏{‏من قبله الرسل‏}‏ أي فيسلك سبيلهم، فاسلكوا أنتم سبيل من نصح نفسه من أتباعهم فاستمسك بنورهم‏.‏

ولما سبب عن ذلك إنكار انهزامهم ودعتهم على تقدير فقده أنكر عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏أفإن‏}‏ ولما كان الملك القادر على ما يريد لا يقول شيئاً وإن كان فرضاً إلا فعله ولو على أقل وجوهه، وكان في علمه سبحانه أنه صلى الله عليه وسلم يموت موتاً- لكونه على فراشه، وقتلاً- لكونه بالسم، قال‏:‏ ‏{‏مات‏}‏ أي موتاً على الفراش ‏{‏أو قتل‏}‏ أي قتلاً ‏{‏انقلبتم‏}‏ أي عن الحال التي فارقكم عليها فأضعتم مشاعر الدين وتركتم مشاريع المرسلين‏!‏ ثم قرر المعنى بقوله‏:‏ ‏{‏على أعقابكم‏}‏ لئلا يظن أن المراد مطلق الانتقال وإن كان على الاستواء والانتقال إلى أحسن ‏{‏ومن‏}‏ أي انتقلتم والحال أنه من ‏{‏ينقلب على عقبيه‏}‏ أي بترك ما شرعه له نبيه أو التقصير فيه ‏{‏فلن يضر الله‏}‏ أي المحيط بجميع العظمة ‏{‏شيئاً‏}‏ لأنه متعالٍ عن ذلك بأن الخلق كلهم طوع أمره، لا يتحركون حركة إلا على وفق مراده، فلو أراد لهداهم أجمعين، ولو أراد أضلهم أجمعين، وإنما يضر ذلك المنقلب نفسه لكفره بالله، وسيجزي الله الشاكرين، ومن سار ثابتاً على المنهج السوي فإنما ينفع نفسه لشكره لله ‏{‏وسيجزي الله‏}‏ أي الذي له جميع صفات الكمال ‏{‏الشاكرين *‏}‏ أي كلهم، فالآية من الاحتباك‏:‏ أثبت الانقلاب وعدم الضر أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً، والجزاء ثانياً دليلاً على حذف مثله أولاً‏.‏

ولما كان موت الرأس من أنصار الدين لا يصلح أن يكون سبباً للفرار إلا إذا كان موته بغير إذن صاحب الدين، وكان الفرار لا يصلح إلا أذا كان يمكن أن يكون سبباً للنجاة، وأما إذا كان موته لا يكون إلا بإرادة رب الدين، والفرار لا يكون سبباً في زيادة الأجل ولا نقصه؛ أشار إلى ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وما كان لنفس‏}‏ أي من الأنفس كائنة من كانت ‏{‏أن تموت‏}‏ أي بشيء من الأشياء ‏{‏إلا بإذن الله‏}‏ أي بعلم الملك الأعلى الذي له الإحاطة التامة وإرادته وتمكينه من قبضها «كتب لكل نفس عمرها» ‏{‏كتاباً مؤجلاً‏}‏ أي أجلاً لا يتقدم عنه بثبات، ولا يتأخر عنه بفرار أصلاً‏.‏

ولما كان المعنى‏:‏ فمن أقدم شكرته ولم يضره الإقدام، ومن أحجم ذممته ولم ينفعه الإحجام، وكان الحامل على الإقدام إيثار ما عند الله، والحامل على الإحجام إيثار الدنيا؛ عطف على ذلك قوله‏:‏ ‏{‏ومن يرد ثواب الدنيا‏}‏ أي بعمله- كما افهمه التعبير بالثواب، وهم المقبلون على الغنائم بالنهب والفارون كفراً لنعمة الله ‏{‏نؤته منها‏}‏ أي ما أراد، وختام الآية يدل على أن التقدير هنا‏:‏ وسنردي الكافرين ولكنه طواه رفقاً لهم ‏{‏ومن يرد ثواب الآخرة‏}‏ أي وهم الثابتون شكراً على إحسانه إليهم من غير أن يشغلهم شاغل عن الجهاد، ولما كان قصد الجزاء غير قادح في الإخلاص منه من الله تعالى علينا قال‏:‏ ‏{‏نؤته‏}‏ ونبه على أن العمل لذات الله من غير نظر إلى ثواب ولا عقاب أعلى فقال‏:‏ ‏{‏منها‏}‏ أي وسنجزيه لشكره، وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏وسنجزي الشاكرين *‏}‏ لكنه أظهر لتعليق الحكم بالوصف وعمم‏.‏

ولما ذكر سبحانه وتعالى هذه الجمل على هذا الوجه الذي بين فيه العلل، وأوضح بحال الزلل، وكان التقدير بعد انقضائها‏:‏ فكأين من قوم أمرناهم بالجهاد، فكانوا على هذين القسمين، فأثبنا الطائع وعذبنا العاصي، ولم يضرنا ذلك شيئاً، ولا جرى شيء منه على غير مرادنا، عطف عليه يؤسيهم بطريق الصالحين من قبلهم ويسيلهم بأحوالهم قوله‏:‏ ‏{‏وكأين‏}‏ وهي بمعنى كم، وفيها لغات كثيرة، قرئ منها في العشر بثنتين‏:‏ الجمهور بفتح الهمزة بعد الكاف وتشديد الياء المكسورة، وابن كثير وأبو جعفر بألف ممدودة بعد الكاف وهمزة مكسورة، ولعلها أبلغ- لأنه عوض عن الحرف المحذوف- من المشهورة بالمد، والمد أوقع في النفس وأوقر في القلب؛ وفيها كلام كثير- في لغاتها ومعناها وقراءاتها المتواترة والشاذة وصلاً ووقفاً، ورسمها في مصحف الإمام عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي وقع إجماع الصحابة عليه ليكون المرجع عند الاختلاف إليه، وهل هي بسيطة أو مركبة ومشتقة أو جامدة وفي كيفية التصرف في لغاتها- استوعبته في كتابي الجامع المبين لما قيل في ‏{‏كأين‏}‏، وقال سبحانه‏:‏ ‏{‏من نبي‏}‏ لتكون التسلية أعظم بذكر ما هو طبق ما وقع في هذه الغزوة من قتل أصحابه، واحتمال العبارة لقتله نفسه بقوله‏:‏ ‏{‏قتل‏}‏ أي ذلك النبي حال كونه ‏{‏معه‏}‏ لكن الأرجح إسناد ‏{‏قتل‏}‏ إلى ‏{‏ربيون‏}‏ لموافقته قراءة الجماعة- سوى الحرميين وأبي عمرو-‏:‏ قاتل معه ‏{‏ربيون‏}‏ أي علماؤهم ورثة الأنبياء، وعلى منهاجهم ‏{‏كثير فما‏}‏ أي فما تسبب عن قتل نبيهم وهنهم، أو يكون المعنى ويؤيده الوصف بالكثرة-‏:‏ قتل الربيون، فما تسبب عن قتلهم أن الباقين بعدهم ‏{‏وهنوا‏}‏ أي ضعفوا عن عملهم ‏{‏لما أصابهم في سبيل الله‏}‏ أي الملك الأعظم من القتل لنبيهم الذي هو عمادهم، أو لإخوانهم الذين هم أعضادهم لكونه من الله ‏{‏وما ضعفوا‏}‏ أي مطلقاً في العمل ولا في غيره ‏{‏وما استكانوا‏}‏ أي وما خضعوا لأعدائهم فطلبوا أن يكونوا تحت أيديهم- تعريضاً بمن قال‏:‏ اذهبَوا إلى أبي عامر الراهب ليأخذ لنا أماناً من أبي سفيان، بل صبروا، فأحبهم الله لصبرهم ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال ‏{‏يحب الصابرين *‏}‏ أي فليفعلن بهم من النصر وإعلاء القدر وجميع أنواع الإكرام فعل من يحبه‏.‏

ولما أثنى سبحانه وتعالى على فعلهم أتبعه قولهم فقال‏:‏ ‏{‏وما كان‏}‏ أي شيء من القول ‏{‏قولهم‏}‏ أي بسبب ذلك الأمر الذي دهمهم ‏{‏إلا أن قالوا‏}‏ أي وهم يجتهدون في نصر دين الله ناسبين الخذلان إلى أنفسهم بتعاطي أسبابه ‏{‏ربنا اغفر لنا ذنوبنا‏}‏ أي التي استوجبنا بها الخذلان ‏{‏وإسرافنا في أمرنا‏}‏ هضماً لأنفسهم، فمع كونهم ربانيين مجتهدين نسبوا ما أصابهم إلى ذنوبهم، فافعلو أنتم فعلهم لتنالوا من الكرامة ما نالوا، كما أشار لكم سبحانه وتعالى إلى ذلك قبل الأخذ في قص القصة عندما وصف به المتقين من قوله‏:‏ ‏{‏أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 135‏]‏‏.‏

ولما دعوا بمحو ما أوجب الخذلان دعوا بثمرة المحو فقالوا‏:‏ ‏{‏وثبت أقدامنا‏}‏ إشارة إلى أن الرعب من نتائج الذنب، والثبات من ثمرات الطاعة- إنما تقاتلون الناس بأعمالكم- ثم أشاروا إلى أن قتالهم لهم إنما هو لله، لا لحظ من حظوظ النفس أصلاً بقوله‏:‏ ‏{‏وانصرنا على القوم الكافرين *‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏148- 152‏]‏

‏{‏فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏148‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ‏(‏149‏)‏ بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ‏(‏150‏)‏ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ‏(‏151‏)‏ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏152‏)‏‏}‏

فلما تم الثناء على فعلهم وقولهم ذكر ما سببه لهم ذلك من الجزاء فقال ‏{‏فأتاهم الله‏}‏ المحيط علماً وقدرةً ‏{‏ثواب الدنيا‏}‏ أي بأن قبل دعاءهم بالنصر والغنى بالغنائم وغيرها وحسن الذكر وانشراح الصدر وزوال شبهات الشر‏.‏

ولما كان ثواب الدنيا كيف ما كان لا بد أن يكون بالكدر مشوباً وبالبلاء مصحوباً، لأنها دار الأكدار؛ أعراه من وصف الحسن، وخص الآخرة به فقال‏:‏ ‏{‏وجسن ثواب الآخرة‏}‏ أي مجازاً بتوفيقهم إلى الأسباب في الدنيا، وحقيقة في الآخرة، فإنهم أحسنوا في هذا الفعال والمقال، لكونهم لم يطلبوا بعبادتهم غير وجه الله، فأحبهم لإحسانهم ‏{‏والله‏}‏ المحيط بصفات الكمال ‏{‏يحب المحسنين *‏}‏ كلهم، فهو جدير بأن يفعل بهم كل جميل ولذلك رفع منزلتهم ولم يجعل ثوابهم بعضاً، كما فعل بمن عبد لإرادة الثواب فقال‏:‏ ‏{‏نؤته منها‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 145‏]‏ فقد بان أن هذه الآية منعطفة على ما أمر به الصحابة رضي الله عنهم على طريقة اللف والنشر المشوش، فنفي الوهن تعريض بمن أشير إليه في آية ‏{‏ولقد كنتم تمنون الموت‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 143‏]‏ ونحو ذلك والثناء لعى قولهم حث عل مثل ما ندبهم إليه في قولهم ‏{‏ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 135‏]‏ وثبات الإقدام إشارة إلى ‏{‏وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 139‏]‏ وإلى أن ثبات القدم للنصر على أعداء الله كان شاغلاً لهم عن الالتفات إلى غيره، وتعريض بمن أقبل على الغنائم وترك طلب العدو لتمام النصر المشار إليهم بآية ‏{‏ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 145‏]‏ وإيتاء الثواب ناظر إلى النهي عن الربا وما انتظم في سلكه وداناه، وإلى الأمر بالمسارعة إلى الجنة وما والاه، وإيماء إلى أن من فعل فعلهم نال ما نالوا، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، لأن علمه محيط، وكرمه لا يحد، وخزائنه لا تنفد، بل لا تنقص، ثم ختمها بما ختم به للحث على التخلق بأوصاف المتقين؛ فقد اتضح بغير لبس أن المراد بهذه الآية- وهي الإخبار عن إيتائهم الثواب- التنبيه على أن أهم الأمور وأحقها بالبداءة التخلق بما وعظوا به قبل قص القصة، ولا ريب أن في مدح من سواهم تهييجاً زائداً لانبعاث نفوسهم وتحرك هممهم وتنبيه نشاطهم وثوران عزائمهم غيرة منهم أن يكون أحد- وهم خير أمة أخرجت للناس- أعلى همة وأقوى عزيمة وأشد شكيمة وأصلب عوداً واثبت عموداً وأربط جأشاً وأذكر لله وأرغب فيما عنده وأزهد فيما أعرض عنه منهم‏.‏

ولما أمر سبحانه وتعالى بطاعته الموجبة للنصر والأجر وختم بمحبته للمحسنين، حذر من طاعة الكافرين المقتضية للخذلان رغبة في موالاتهم ومنا صرتهم فقال تعالى واصلاً بالنداء في آية الربا‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي أقروا بالإيمان ‏{‏إن تطيعوا‏}‏ بخضوع واستئمان أو غيره ‏{‏الذين كفروا‏}‏ أي هذا الفريق منهم أو غيره ‏{‏يردوكم على أعاقبكم‏}‏ بتعكيس أحوالكم إلى أن تصيروا مثلهم ظالمين كافرين ‏{‏فتنقلبوا خاسرين *‏}‏ في جميع أموركم في الدارين، فتكونوا في غاية البعد من أحوال المحسنين، فتكونوا بمحل السخط من الله صغرة تحت أيدي الأعداء في الدنيا خالدين في العذاب في الأخرى، وذلك ناظر إلى قوله تعالى أول ما حذر من مكر الكفار

‏{‏يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 100‏]‏، وموضح أن جميع هذه الآيات شديد اتصال بعضها ببعض- والله الموفق‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فلا تطيعوهم، إنهم ليسوا صالحين للولاية مطلقاً ما دمتم مؤمنين، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏بل الله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏مولاكم‏}‏ مخبراً بأنه ناصرهم وأن نصره لا يساويه نصر أحد سواه بقوله‏:‏ ‏{‏وهو خير الناصرين *‏}‏ أي لأن من نصره سبب له جميع أسباب النصر وأزال عنه كل أسباب الخذلان فمنع غيره- كائناً من كان- من إذلاله ثم قرر ذلك بقوله محققاً للوعد‏:‏ ‏{‏سنلقي‏}‏ أي بعظمتنا ‏{‏في قلوب الذين كفروا الرعب‏}‏ أي المقتضي لامتثال ما أمر به من الجرأة عليهم وعدم الوهن في أمرهم، كما افتتح القصة بالإيماء إلى ذلك بالأمر بالسير في الأرض والنظر في عاقبة المكذبين، ثم بين سبب ذلك فقال‏:‏ ‏{‏بما أشركوا بالله‏}‏ أي ليعلموا قطعاً أنه لا ولي لعدوه لأنه لا كفوء له، وبين بقوله‏:‏ ‏{‏ما لم ينزل‏}‏ أي في وقت من الأوقات ‏{‏به سلطاناً‏}‏ أنه لا حجة لهم في الإشراك، وما لم ينزل به سلطاناً فلا سلطان له، ومادة سلط ترجع إلى القوة، ولما كان التقدير‏:‏ فعليهم الذل في الدنيا لاتباعهم ما لا قوة به، عطف عليه‏:‏ ‏{‏ومأواهم النار‏}‏ ثم هوّل أمرها بقوله‏:‏ ‏{‏وبئس مثوى الظالمين *‏}‏ أي هي، وأظهر في موضع الإضمار للتعميم وتعليق الحكم بالوصف‏.‏

ولما كانت السين في ‏{‏سنلقي‏}‏ مفهمة للاستقبال كان ذلك ربما أوهم أنه لم يرغبهم فيما مضى، فنفى هذا الوهم محققاً لهم ذلك بتذكيرهم بما أنجز لهم من وعده في أول هذه الوقعة مدة تلبسهم بما شرط عليهم من الصبر والتقوى بقوله تعالى- عطفاً على قوله‏:‏ ‏{‏بلى إن تصبروا وتتقوا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 125‏]‏، مصرحاً بما لوح إليه تقديراً قبل ‏{‏ولقد نصركم الله ببدر‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 123‏]‏ كما مضى-‏:‏ ‏{‏ولقد صدقكم الله وعده‏}‏ أي في قوله ‏{‏وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 120‏]‏ ‏{‏إذ تحسونهم‏}‏ أي تقتلونهم بعضهم بالفعل والباقين بالقوة التي هيأها لكم ‏{‏بإذنه‏}‏ فإن الحسن بالفتح‏:‏ القتل والاستئصال- قاله في القاموس‏.‏ ثم بين لهم سبب هزيمتهم بعد تمكينه منهم ليكون رادعاً لهم عن المعاودة إلى مثله فقال مبيناً لغاية الحسن‏:‏ ‏{‏حتى إذا فشلتم‏}‏ أي ضعفتم وتراخيتم بالميل إلى الغنيمة خلاف ما تدعو إليه الهمم العوالي، فكيف بهم إذا كانوا من حزب مولى الموالي‏!‏ فلو كانت العرب على حال جاهليتها تتفاخر بالإقبال على الطعن والضرب في مواطن الحرب والإعراض عن الغنائم- كما قال عنترة بن شداد العبسي يفتخر‏:‏

هلا سألت الخيل يا ابنة مالك *** إن كنت جاهلة بما لم تعلمي

إذ لا أزال على رحالة سابح *** نهد تعاوره الكماة مكلم

طوراً يعرض للطعان وتارة *** يأوي إلى حصد القسي عرموم

يخبرك من شهد الوقيعة أنني *** أغشى الوغى وأعفّ عند المغنم

وقال يفاخر بقومه كلهم‏:‏

إنا إذا حمس الوغى نروي القنا *** ونعف عند مقاسم الأنفال

ولما ذكر الفشل عطف عليه ما هو سببه في الغالب فقال‏:‏ ‏{‏وتنازعتم‏}‏ أي بالاختلاف، وأصله من نزع بعض شيئاً من يد بعض ‏{‏في الأمر‏}‏ أي أمر الثغر المأمور بحفظه ‏{‏وعصيتم‏}‏ أي وقع العصيان بينكم بتضييع الثغر‏.‏ وأثبت الجار تصويراً للمخالفة بأنها كانت عقب رؤية النصر سواء، وتبشيراً بزوالها فقال‏:‏ ‏{‏من بعد ما أراكم ما تحبون‏}‏ أي من حسهم بالسيوف وهزيمتهم‏.‏

ولما كان ذلك ربما أفهم أن الجميع عصوا نفي ذلك معللاً للعصيان بقوله‏:‏ ‏{‏منكم من يريد الدنيا‏}‏ أي قد أغضى عن معايبها التي أجلاها فناؤها‏.‏ ولما كان حكم الباقين غير معين للفهم من هذه الجملة قال‏:‏ ‏{‏ومنكم من يريد الآخرة‏}‏ وهم الثابتون في مراكزهم، لما يعرجوا على الدنيا‏.‏

ولما كان التقدير جواباً لإذا‏:‏ سلطهم عليكم، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ثم صرفكم عنهم‏}‏ أي لاندهاشكم إتيانهم إليكم من ورائكم، وعطفه بثم لاستبعادهم للهزيمة بعد ما رأوا من النصرة ‏{‏ليبتليكم‏}‏ أي يفعل في ذلك فعل من يريد الاختبار في ثباتكم على الدين في حالي السراء والضراء‏.‏ ولما كان اختباره تعالى بعصيانهم شديد الإزعاج للقلوب عطف على قوله ‏{‏صرفكم‏}‏ ‏{‏ولقد عفا عنكم‏}‏ أي تفضلاً عليكم لإيمانكم ‏{‏والله‏}‏ الذي له الكمال كله ‏{‏ذو فضل على المؤمنين *‏}‏ أي كافة، وهو من الإظهار في موضع الإضمار للتعميم وتعليق الحكم بالوصف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏153- 154‏]‏

‏{‏إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏153‏)‏ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏154‏)‏‏}‏

ولما ذكر علة الصرف والعفو عنه صوّره فقال‏:‏ ‏{‏إذ‏}‏ أي صرفكم وعفا عنكم حين ‏{‏تصعدون‏}‏ أي تزيلون الصعود فتنحدرون نحو المدينة، أو تذهبون في الأرض لتبعدوا عن محل الوقعة خوفاً من القتل ‏{‏ولا تلوون‏}‏ أي تعطفون ‏{‏على أحد‏}‏ أي من قريب ولا بعيد ‏{‏والرسول‏}‏ أي الذي أرسل إليكم لتجيبوه إلى كل ما يدعوكم إليه وهو الكامل في الرسلية ‏{‏يدعوكم في أخراكم‏}‏ أي ساقتكم وجماعتكم الأخرى، وأنتم مدبرون وهو ثابت في مكانه في نحر العدو في نفر يسير لا يبلغون أربعين نفساً على اختلاف الروايات- وثوقاً بوعد الله ومراقبة له يقول كلما مرت عليه جماعة منهزمة‏:‏ «إليّ عباد الله‏!‏ أنا رسول الله‏!‏ إليّ إليّ عباد الله» كما هو اللائق بمنصبه الشريف من الاعتماد على الله والوثوق بما عنده وعد من دونه من ولي وعدو عدماً؛ وإنما قلت‏:‏ إن معنى ذلك الانهزام، لأن الدعاء يراد منه الإقبال على الداعي بعد الانصراف عما يريده ليأمر وينهى، فعلم بذلك أنهم مولون عن المقصود وهو القتال، وفي التفسير من البخاري عن البراء رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ جعل النبي صلى الله عليه وسلم على الرجالة يوم أحد عبد الله بن جبير رضي الله تعالى عنه وأقبلوا منهزمين، فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم، ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلاً‏.‏

ولما تسبب عن العفو ردهم عن الهزيمة إلى القتال قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأثابكم‏}‏ أي جعل لكم ربكم ثواباً ‏{‏غماً‏}‏ أي باعتقادكم قتل الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ وكان اعتقاداً كاذباً مُلتئم به رعباً ‏{‏بغم‏}‏ أي كان حصل لكم من القتل والجراح والهزيمة، وسماه- وإن كان في صورة العقاب- باسم الثواب لأنه كان سبباً للسرور حين تبين أنه خبر كاذب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم سالم حتى كأنهم- كما قال بعضهم- لم تصبهم مصيبة، فهو من الدواء بالداء، ثم علله بقوله‏:‏ ‏{‏لكيلا تحزنوا على ما فاتكم‏}‏ أي من النصر والغنيمة ‏{‏ولا ما أصابكم‏}‏ أي من القتل والجراح والهزيمة لاشتغالكم عن ذلك بالسرور بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولما قص سبحانه وتعالى عليهم ما فعلوه ظاهراً وما قصدوه باطناً وما داواهم به قال- عاطفاً على ما تقديره‏:‏ فالله سبحانه وتعالى خبير بما يصلح أعمالكم ويبرئ أدواءكم-‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي المحيط علماً وقدرة ‏{‏خبير بما تعملون *‏}‏ أي من خير وشر في هذه الحال وغيرها، وبما يصلح من جزائه ودوائه، فتارة يداوي الداء بالداء وتارة بالدواء، لأنه الفاعل القادر المختار‏.‏

ولما كان أمانهم بعد انخلاع قلوبهم بعيداً، ولا سيما بكونه بالنعاس الذي هو أبعد شيء عن ذلك المقام الوعر والمحل الضنك عطف بأداة البعد في قوله‏:‏ ‏{‏ثم أنزل عليكم‏}‏ ولما أفاد بأداة الاستعلاء عظمة الأمن، وكان متصلاً بالغم ولم يستغرق زمن ما بعده أثبت الجار فقال‏:‏ ‏{‏من بعد الغم‏}‏ أي المذكور وأنتم في نحر العدو ‏{‏أمنة‏}‏ أي أمناً عظيماً، ثم ابدل منها تنبيهاً على ما فيها من الغرابة قوله‏:‏ ‏{‏نعاساً‏}‏ دليلاً قطعياً فإنه لا يكون إلا من أمن؛ روي البخاري في التفسير عن أنس رضي الله عنه أن أبا طلحة رضي الله عنه قال‏:‏

«غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد، فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه» ولما كان لبعضهم فقط استأنف وصفه بقوله‏:‏ ‏{‏يغشى طائفة منكم‏}‏ وهم المؤمنون، وابتدأ الإخبار عن الباقين بقوله‏:‏ ‏{‏وطائفة‏}‏ أي أخرى من المنافقين ‏{‏قد أهمتهم أنفسهم‏}‏ لا المدافعة عن الدين فهم إنما يطلبون خلاصها، ولا يجدون إلى ذلك فيما يظنون سبيلاً لاتصال رعبهم وشدة جزعهم، فعوقبوا على ذلك بأنه لم يحصل لهم الأمن المذكور، ثم فسر همهم فقال‏:‏ ‏{‏يظنون بالله‏}‏ المحيط بصفات الكمال ‏{‏غير الحق‏}‏ أي من أن نصره بعده هذا لا يمكن، أو أنهم لو قعدوا في المدينة لم يقتل أحد، ونحو ذلك من سفساف الكلام وفاسد الظنون التي فتحتها لو والأوهام ‏{‏ظن الجاهلية‏}‏ أي الذين لا يعلمون- من عظمة الله سبحانه وتعالى بأن ما أراده كان ولا يكون غيره- ما يعلم أتباع الرسل‏.‏ ثم فسر الظن بقوله‏:‏ ‏{‏يقولون‏}‏ أي منكرين لأنه لم يجعل الرأي رايهم ويعمل بمقتضاه غشباً وتاسفاً على خروجهم في هذا الوجه وعدم رجوعهم مع ابن أبيّ بعد أن خرجوا ‏{‏هل لنا من الأمر‏}‏ أي المسموع، ولكون الاستفهام بمعنى النفي ثبتت أداة الاستغراق في قوله‏:‏ ‏{‏من شيء‏}‏ فكأنه قيل‏:‏ فماذا يقال لهم‏؟‏ فقيل‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي لهم رداً عليهم احتقاراً بهم ‏{‏إن الأمر‏}‏ أي الحكم الذي لا يكون سواه ‏{‏كله لله‏}‏ أي الذي لا كفوء له، وليس لكم ولا لغيركم منه شيء، شئتم أو أبيتم، غزوتم أو قعدتم، ثبتم أو فررتم‏.‏

ولما قص سبحانه وتعالى عليهم بعض أمرهم في هذه الحرب، وبين لهم شيئاً من فوائد ما فعل بهم بقوله‏:‏ ‏{‏إن يمسسكم قرح‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 140‏]‏ وكان من جملة ذلك ما أظهر من أسرار المنافقين بهذه الوقعة في اتهامهم الله ورسوله، حتى وصل إلى هنا، وكان قولهم هذا غير صريح في الاتهام لإمكان حمله على مساق الاستفهام أخبر سبحانه وتعالى بتدليسهم بقوله‏:‏ ‏{‏يخفون‏}‏ أي يقولون ذلك مخفين ‏{‏في أنفسهم ما لا يبدون لك‏}‏ لكونه لا يرضاه اللهز ثم بين ذلك بعد إجماله فقال‏:‏ ‏{‏يقولون لو كان لنا من الأمر‏}‏ أي المسموع ‏{‏شيء ما قتلنا ههنا‏}‏ لأنا كنا نمكث في المدينة ولا نخرج إلى العدو‏.‏

ولما أخبر سبحانه وتعالى عنهم بما أخفوه جهلاً منهم ظناً أن الحذر يغني من القدر أمره سبحانه وتعالى بالرد عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏قل لو كنتم في بيوتكم‏}‏ أي بعد أن أجمع رأيكم على أن لا يخرج منكم أحد ‏{‏لبرز الذين كتب عليهم القتل‏}‏ أي في هذه الغزوة ‏{‏إلى مضاجعهم‏}‏ أي التي هي مضاجعهم بالحقيقة وهي التي قتلوا بها، لأن ما قدرناه لا يمكن أحداً دفعه بوجه من الوجوه، ثم عطف على ما علم تقديره ودل عليه السياق قوله‏:‏ ‏{‏ليبتلي‏}‏ أي لبرز المذكورون لينفذ قضاؤه ويصدق قوله لكم في غزوة بدر‏:‏ إن فاديتم الأسارة ولم تقتلوهم قتل منكم في العام المقبل مثلهم ‏{‏وليبتلي الله‏}‏ أي المحيط بصفات الكمال بهذا الأمر التقديري ‏{‏ما في صدوركم‏}‏ أي من الإيمان والنفاق بأن يفعل في إظهاره من عالم الغيب إلى عالم الشهادة فعل المختبر كما فعل بما وجد في هذه الغزوة من الأمور التحقيقية ‏{‏وليمحص ما في قلوبكم‏}‏ اي يطهره ويصفيه من جميع الوساوس الصارفة عن المراقبة من محبة الدنيا من الغنائم التي كانت سبب الهزيمة وغيرها‏.‏ وختم بقوله‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له الإحاطة بكل شيء ‏{‏عليم بذات الصدور *‏}‏ مرغباً ومرهباً ودافعاً لما قد يتوهم من ذكر الابتلاء من عدم العلم بالخفايا‏.‏

ولما كانوا في هذه الغزوة قد حصل لهم ضرر عظيم، لكنه كان بما وقع من بعضهم من الخلل الظاهر فأدبهم بذلك، عفا عنهم سبحانه وتعالى بعد ذلك التأديب ورحمهم وطيب قلوبهم بهذه الآية بما فيها من التأمين صريحاً، وبما فيها من الإشارة بجمع جميع حروف المعجم فيها تلويحاً إلى أن أمرهم لا بد أن يتم كما تمت الحروف في هذه الآية‏.‏ لكنه افتتحها بأداة التراخي إشارة إلى أنه لا يكون إلا بعد مدة مديدة حتى تصقل مرائي الصدور التي ختمها بها بخلاف ما في الآية الأخرى الجامعة للحروف في آخر سورة الفتح التي نزلت في الحديبية التي ساءهم رجوعهم منها دون وصولهم إلى قصدهم- كما يأتي إن شاء الله سبحانه وتعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏155- 157‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏155‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏156‏)‏ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ‏(‏157‏)‏‏}‏

ولما كان فيه مع ذلك معنى التعليل والتنبيه على أنه غني عن الاختبار، خبير بدقائق الأسرار أتبعه قوله مستأنفاً لبيان ما هو من ثمرات العلم‏:‏ ‏{‏إن الذين تولوا منكم‏}‏ أي عن القتال ومقارعة الأبطال ‏{‏يوم التقى الجمعان‏}‏ أي من المؤمنين والكفار ‏{‏إنما استزلّهم‏}‏ أي طلب زللهم عن ذلك المقام العالي ‏{‏الشيطان‏}‏ أي عدوهم البعيد من الرحمة المحترق باللعنة ‏{‏ببعض ما كسبوا‏}‏ أي من الذنوب التي لا تليق بمن طلب الدنو إلى حضرات القدس ومواطن الأنس من ترك المركز والإقبال على الغنيمة وغير ذلك، فإن القتال في الجهاد إنما هو بالأعمال، فمن كان أصبر في أعمال الطاعة كان أجلد على قتال الكفار، ولم يكن توليهم عن ضعف في نفس الأمر‏.‏

ولما كان ذلك مفهماً أن الذين تولوا صاروا من حزب الشيطان فاستحقوا ما استحق ألصق به قوله‏:‏ ‏{‏ولقد عفا الله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال ‏{‏عنهم‏}‏ لئلا تطير أفئدة المؤمنين منهم، وختم ذلك ببيان علته مما هو أهله من الغفران والحلم فقال معيداً للاسم الأعظم تنبيهاً على أن الذنب عظيم والخطر بسببه جسيم، فلولا الاشتمال على جميع صفات الكمال لعوجلوا بأعظم النكال‏:‏ ‏{‏إن الله غفور‏}‏ أي محاء للذنوب عيناً وأثراً‏.‏ ولما كان الغفر قد يكون مع تحمل نفاه بقوله‏:‏ ‏{‏حليم *‏}‏ أي حيث لم يعامل المتولين حذر الموت معاملة الذين خرجوا من ديارهم- كما تقدم- حذر الموت، فقال لهم الله‏:‏ موتوا‏.‏

ولما كان قولهم‏:‏ إنا لو ثبتنا في المدينة الممثلة بالدرع الحصينة- كما «كان رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأكابر من أصحابه» لسلمنا، إلى غير ذلك مما أشار سبحانه وتعالى إليه قولاً موجباً لغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ لما فيه من الاتهام وسوء العقيدة، وكان مع ذلك مظنة لأن يخدع كثيراً من أهل الطاعة لشدة حبهم لمن قتل منهم وتعاظم أسفهم عليهم‏.‏ كان أنسب الأشياء المبادرة إلى الوعظ بما يزيل هذا الأثر، ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلم مؤيداً بأعظم الثبات لما طبع عليه من الشيم الطاهرة والمحاسن الظاهرة كان الأنسب البداءة بغيره، فنهى الذين آمنوا عن الانخداع بأقوالهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي أظهروا الإقرار بالإيمان‏!‏ صدقوا قولكم بأن ‏{‏لا تكونوا كالذين كفروا‏}‏ أي بقلوبهم على وجه الستر ‏{‏وقالوا‏}‏ أي ما فضحهم ‏{‏لإخوانهم‏}‏ أي لأجل إخوانهم الأعزة عليهم نسباً أو مذهباً ‏{‏إذا ضربوا‏}‏ أي سافروا مطلق سفر ‏{‏في الأرض‏}‏ أي لمتجر أو غيره ‏{‏أو كانوا غزّى‏}‏ أي غزاة مبالغين في الغزو في سبيل الله بسفر أو غيره جمع غازٍ، فماتوا أو قتلوا ‏{‏لو كانوا عندنا‏}‏ أي لم يفارقونا ‏{‏ما ماتوا وما قتلوا‏}‏ وهذا في غاية التهكم بهم، لأن إطلاق هذا القول منهم- لا سيما على هذا التأكيد- يلزم منه ادعاء أنه لا يموت أحد في المدينة، وهو لا يقوله عاقل

ولما كان هذا القول محزناً اعتقاده وكتمانه علق سبحانه وتعالى بقوله‏:‏ «قالوا» وبانتفاء الكون كالذين قالوا قوله‏:‏ ‏{‏ليجعل الله‏}‏ أي الذي لا كفوء له ‏{‏ذلك‏}‏ أي القول أو الانفراد به عن مشارك ‏{‏حسرة في قلوبهم‏}‏ أي باعتقاده وعدم المواسي فيه وعلى تقدير التعليق ب «قالوا» يكون من باب التهكم بهم لأنهم لو لم يقولوه لهذا الغرض الذي لا يقصده عاقل لكانوا قد قالوه لا لغرض أصلاً وذلك أعرق في كونه ليس من أفعال العقلاء ‏{‏والله‏}‏ أي لا تكونوا مثلهم والحال‏.‏

أو قالوا ذلك والحال‏.‏ أن الذي له الإحاطة الكاملة ‏{‏يحيي‏}‏ أي من أراد في الوقت الذي يريد ‏{‏ويميت‏}‏ أي من أراد إذا أراد لا يغني حذره من قدره ‏{‏والله‏}‏ أي المحيط بكل شيء قدره وعلماً ‏{‏بما تعملون‏}‏ أي بعملكم وبكل شيء منه ‏{‏بصير *‏}‏ وعلى كل شيء منه قدير لا يكون شيء منه بغير إذنه ومتى كان على خلاف أمره عاقب عليه‏.‏

ولما نهاهم عن قول المنافقين الدائر على تمني المحال من دوام البقاء وكراهة الموت بيّن لهم ثمرة فوات أنفسهم في الجهاد بالموت أو القتل ليكون ذلك مبعداً لهم مما قال المنافقون موجباً لتسليم الأمر للخالق بل محبباً فيه وداعياً إليه فقال‏:‏ ‏{‏ولئن‏}‏ وهو حال أخرى من لا «تكونوا» ‏{‏قتلتم‏}‏ أي من أية قاتل كان ‏{‏في سبيل الله‏}‏ أي الملك الأعظم قتلاً ‏{‏او متم‏}‏ أي فيه موتاً على أية حالة كانت‏.‏ ولما كان للنفوس غاية الجموح عن الموت زاد في التأكيد فقال‏:‏ ‏{‏لمغفرة‏}‏ أي لذنوبكم تنالكم فهذا تعبد بالخوف من العقاب ‏{‏من الله‏}‏ أي الذي له نهاية الكمال بما كنتم عليه من طاعة ‏{‏ورحمة‏}‏ أي لأجل ذلك وهو تعبد لطلب الثواب ‏{‏خير مما يجمعون *‏}‏ أي مما هو ثمرة البقاء في الدنيا عند أهل الشقاء مع أنه ما فاتكم شيء من أعماركم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏158- 161‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏158‏)‏ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ‏(‏159‏)‏ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏160‏)‏ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏161‏)‏‏}‏

ولما ذكر أشرف الموت بادئاً بأشرفه ذكر ما دونه بادئاً بأدناه فقال‏:‏ ‏{‏ولئن متم أو قتلتم‏}‏ أي في أي وجه كان على حسب ما قدر عليكم في الأزل ‏{‏لإلى الله‏}‏ أي الذي هو متوفيكم لا غيره، وهو ذو الجلال والإكرام الذي ينبغي أن يعبد لذاته‏.‏ ودل على عظمته بعد الدلالة بالاسم الأعظم بالبناء للمجهول فقال‏:‏ ‏{‏تحشرون *‏}‏ فإن كان ذلك الموت أو القتل على طاعته أثابكم وإلا عاقبكم، والحاصل أنه لا حيلة في دفع الموت على حالة من الحالات‏:‏ قتل أو غيره، ولا في الحشر إليه سبحانه وتعالى، وأما الخلاص من هول ذلك اليوم ففيه حيلة بالطاعة‏.‏ والله سبحانه وتعالى الموفق‏.‏ وما أحسن ما قال عنترة في نحوه وهو جاهلي، فالمؤمن أولى منه بمثل ذلك‏:‏

بكرت تخوفني الحتوف كأنني *** أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل

فأجبتها إن المنية منهل *** لا بد أن أسقى بكأس المنهل

فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي *** أني امرؤ سأموت إن لم أقتل

ولما فرغ من وعظ الصحابة رضي الله تعالى عنهم أتبعه تحبيب النبي صلى الله عليه وسلم فيما فعل بهم من الرفق والللين مع ما سبب الغضب الموجب للعنف والسطوة من اعتراض من اعترض على ما أشار به، ثم مخالفتهم لأمره في حفظ المركز والصبر والتقوى، ثم خذلانهم له وتقديم أنفسهم على نفسه الشريفة، ثم عدم العطف عليه وهو يدعوهم إليه ويأمر بإقبالهم عليه، ثم اتهام من اتهمه‏.‏ إلى غير ذلك من الأمور التي توجب لرؤساء الجيوش وقادة الجنود اتهام أتباعهم وسوء الظن بهم الموجب للغضب والإيقاع ببعضهم ليكون ذلك زاجراً لهم عن العود إلى مثله فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فبما رحمة من الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله ‏{‏لنت لهم‏}‏ أي ما لنت لهم هذا اللين الخارق للعادة ورفقت بهم هذا الرفق بعدما فعلوا بك إلا بسبب رحمة عظيمة من الله الحائز لجميع الكمال، فقابلتهم بالجميل ولم تعنفهم بانهزامهم عنك بعد إذ خالفوا رأيك، وهم كانوا سبباً لاستخراجك؛ والذي اقتضى هذا الحصر هو ما لأنها نافية في سياق الإثبات فلم يمكن أن توجه إلا إلى ضد ما أثبته السياق، ودلت زيادتها على أن تنوين «رحمة» للتعظيم، أي فبالرحمة العظيمة لا بغيرها لنت‏.‏

ولما بين سبحانه وتعالى سبب هذا اللين المتين بين ثمرته ببيان ما في ضده من الضرر فقال‏:‏ ‏{‏ولو كنت فظّاً‏}‏ أي سيئ الخلق جافياً في القول ‏{‏غليظ القلب‏}‏ أي قاسية لا تتأثر بشيء، تعاملهم بالعنف والجفاء ‏{‏لانفضّوا‏}‏ أي تفرقوا تفرقاً قبيحاً لا اجتماع معه ‏{‏من حولك‏}‏ أي ففات المقصود من البعثة‏.‏

ولما أخبره سبحانه وتعالى أنه هو عفا عنهم ما فرطوا في حقه أمره بالعفو عنهم فيما يتعلق به صلى الله عليه وسلم، وبالاستمرار على مشاورتهم عند النوائب لئلا يكون خطؤهم في الرأي- أولاً في الخروج من المدينة‏.‏

وثانياً في تضييع المركز، وثالثاً في إعراضهم عن الإثخان في العدو بعد الهزيمة الذي ما شرع القتال إلا لأجله بإقبالهم عن النهب، ورابعاً في وهنهم عند كر العدو إلى غير ذلك- موجباً لترك مشاورتهم، فيفوت ما فيها من المنافع في نفسها وفيما تثمره من التألف والتسنن وغير ذلك فقال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏فاعف عنهم‏}‏ أي ما فرطوا في هذه الكره في حقك ‏{‏واستغفر لهم‏}‏ أي الله سبحانه وتعالى لما فرطوا في حقه ‏{‏وشاورهم‏}‏ أي استخرج آراءهم ‏{‏في الأمر‏}‏ أي الذي تريده من أمور الحرب تألفاً لهم وتطييباً لنفوسهم ليستن بك من بعدك ‏{‏فإذا عزمت‏}‏ أي بعد ذلك على أمر فمضيت فيه، وقراءة من ضم التاء للمتكلم بمعناها، أي فإذا فعلت أنت أمراً بعد المشاورة لأني فعلت فيه- بأن أردته- فعل العازم‏.‏

ولما أمر بالمشاورة التي هي النظر في الأسباب أمر بالاعتصام بمسببها من غير التفات إليها ليكمل جهاد الإنسان بالملابسة ثم التجرد فقال‏:‏ ‏{‏فتوكل‏}‏ أي فيه ‏{‏على الله‏}‏ أي الذي له الأمر كله، ولا يردك عنه خوف عاقبة- كما فعلت بتوفيق الله في هذه الغزوة، ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي لا كفوء له ‏{‏يحب المتوكلين *‏}‏ أي فلا يفعل بهم إلا ما فيه إكرامهم وإن رُئي غير ذلك‏.‏

ولما كان التقدير؛ فإذا فعلوا ما يحبه أعطاهم مُناهم مما عزموا عليه لأجله؛ استأنف الإخبار بما يقبل بقلوبهم إليه ويقصر هممهم عليه، بأن من نصره هو المنصور، ومن خذله هو المخذول، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن ينصركم الله‏}‏ أي الذي له جميع العظمة ‏{‏فلا غالب لكم‏}‏ أي إن كان نبيكم صلى الله عليه وسلم بينكم أو لا، فما بالكم وهنتم لما صاح إبليس أن محمداً قد قتل‏!‏ وهلا فعلتم كما فعل سعد بن الربيع رضي الله تعالى عنه وكما فعل أنس بن النضير رضي الله تعالى عنه حين قال‏:‏ «موتوا على ما مات عليه نبيكم صلى الله عليه وسلم ‏!‏ فهو أعذر لكم عند ربكم» ‏{‏وإن يخذلكم‏}‏ أي بإمكان العدو منكم ‏{‏فمن ذا الذي ينصركم من بعده‏}‏ أي من نبي أو غيره، ولما كان التقدير‏:‏ فعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وعلى الله‏}‏ أي الملك الأعظم وحده، لا على نبي ولا على قوة بعد ولا بمال من غنيمة ولا غيرها ‏{‏فليتوكل المؤمنون *‏}‏ أي كلهم فيكون ذلك أمارة صحة إيمانهم‏.‏

ولما كان الغلول من أعظم موجبات الخذلان أو أعظمها‏.‏ والنزاهة عن من أعظم موجبات النصر، كان أنسب الأشياء تعقيب هذه الآية بآية الغلول بياناً، لأنه كان سبب هزيمتهم في هذه الغزوة، فإنه لا يخذل إلا بالذنوب، ومن أعظم الذنوب الموجبة للخذلان الغلول فيكون المراد بتنزيهه صلى الله عليه وسلم عنه- والله أعلم- أن إقبالهم عن نهب الغنائم قبل وقته إما أن يكون لقصد أن يغلو بإخفاء ما انتهبوه أو بعضه، وإما أن يكون للخوف من أن يغل رئيسهم وحاشاه‏!‏ وإما أن يكون للخوف من مطلق الخيانة بأن لا يقسمه صلى الله عليه وسلم بينهم على السواء، وحاشاه من كل من ذلك‏!‏ وأما المبادرة إلى النهب لغير هذا القصد فخفة وطيش وعبث، لا يصوب عاقل إليه؛ إذا تقرر هذا فيمكن أن يكون التقدير‏:‏ فليتوكلوا في كبت العدو وتحصيل ما معه من الغنائم، فلا يقبلوا على ذلك إقبالاً يتطرق منه احتمال لظن السوء بهاديهم في أن يغل، وهو الذي أخبرهم بتحريم الغلول وبأنه سبب للخذلان، وما نهى صلى الله عليه وسلم قط عن شيء إلا كان أول تارك له وبعيد منه وما كان ينبغي لهم أن يفتحوا طريقاً إلى هذا الاحتمال فعبر عن ذلك بقوله عطفاً على

‏{‏وكأين من نبي‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 146‏]‏ ‏{‏وما كان‏}‏ أي ما تأتى وما صح في وقت من الأوقات ولا على حالة من الحالات ‏{‏لنبي‏}‏ أي أي نبي كان فضلاً عن سيد الأنبياء وإمام الرسل ‏{‏أن يغل‏}‏ تبشيعاً لفعل ما يؤدي إلى هذا الاحتمال زجراً من معاودة مثل ذلك الفعل المؤدي إلى تجويز شيء مما ذكر، وعلى قراءة الجماعة غير ابن كثير وأبي عمرو- بضم الياء وفتح العين مجهولاً من‏:‏ أغل- المعنى‏:‏ وما كان له وما صح أن يوجد غالاً، أو ينسب إلى الغلول، أو يظن به ما يؤدي إلأى ذلك؛ ويجوز أن يكون التقدير بعد الأمر بالتوكل على الله سبحانه وتعالى وحده‏:‏ فلا تأتوا إن كنتم مؤمنين بما يقدح في التوكل كالغلول وما يدانيه فتخذلوا، فإنه ما كان لكم أن تغلوا، وما كان أي ما حل لنبي أي من الأنبياء قط أن يغل، أي لم أخصكم بهذه الشريعة بل ما كان في شرع نبي قط إباحة الغلول، فلا تفعلوه ولا تقاربوه بنحو الاستباق إلى النهب، فإن ذلك يسلب كمال التوكل، فإنه من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه، فيوجب له الخذلان، روى الطبراني في الكبير- قال الهيثمي‏:‏ ورجاله ثقات- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ «بعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً فردت رايته‏.‏ ثم بعث فردت، ثم بعث فردت بغلول رأس غزال من ذهب، فنزلت ‏{‏وما كان لنبي أن يغل‏}‏»‏.‏

ولما كان فعلهم ذلك محتملاً لقصدهم الغلول ولخوفهم من غلول غيرهم عمم في التهديد بقوله‏:‏ ‏{‏ومن يغلل‏}‏ أي يقع منه ذلك كائناً من كان ‏{‏يأت بما غل يوم القيامة‏}‏ ومن عرف كلام أهل اللغة في الغلول عرف صحة قولي‏:‏ إنه لمطلق الخيانة، وإنه يجوز أن يكون التقدير‏:‏ وما كان لأحد أن يفعل ما يؤدي- ولو وعلى بعد- إلى نسبة نبي إلى غلول، قال صاحب القاموس‏:‏ أغل فلاناً‏:‏ نسبه إلى الغلول والخيانة، وغل غلولاً‏:‏ خان- كأغل، أو خاص بالفيء، وقال الإمام عبد الحق الإشبيلي في كتابه الواعي‏:‏ أغل الرجل أغلالاً- إذا خان، فهو مغل وغل في المغنم يغل غلولاً، وقرئ‏:‏ أن يَغُل، وأن يُغَل، فمن قرأ‏:‏ يَغُل- أراد‏:‏ يخون، ومن قرأ‏:‏ يُغَل- أراد‏:‏ يخان، ويجوز أن يريد‏:‏ لا ينسب إلى الخيانة وكل من خان شيئاً في خفاء فقد غل يغل غلولاً، ويسمى الخائن غالاً، وفي الحديث

«لا إغلال ولا إسلال» الإغلال‏:‏ الخيانة في كل شيء، وغللت الشيء أغله غلاًّ- إذا سترته، قالوا‏:‏ ومنه الغلول في المغنم، إنما أصله أن الرجل كان إذا أخذ منه شيئاً ستره في متاعه، فقيل للخائن‏:‏ غال ومغل، ويقال‏:‏ غللت الشيء في الشيء- إذا أدخلته فيه، وقد انغل- إذا دخل في الشيء، وقد انغل في الشجر‏.‏ دخل- انتهى‏.‏ فهذه الآية نهي للمؤمنين عن الاستباق إلى المغنم على طريق الإشارة، فتم بها الوعظ الذي في أواخره القصة، كما أن آية الربا نهي عنه على طريق الإشارة، فتم بها الوعظ الذي في أوائل القصة، فقد اكتنف التنفير من الغلول- الذي هو سبب الخذلان في هذه الغزوة بخصوصها لمباشرة ما هو مظنة له وفي الغزو مطلقاً- طرفي الوعظ فيها، ليكون من أوائل ما يقرع السمع وأواخره‏.‏

ولما كان ثمرة الإتيان به الجزاء عليه عمم الحكم تنبيهاً على أن ذلك اليوم يوم الدين، فلا بد من الجزاء فيه وتصويراً له تبشيعاً للفضيحة فيه بحضرة الخلق أجمعين، وزاد في تعظيمه وتعظيم الجزاء فيه بأداة التراخي وتضعيف الفعل فقال معمماً الحكم ليدخل الغلول من باب الأولى‏:‏ ‏{‏ثم توفى‏}‏ أي في ذلك اليوم العظيم، وبناه للمجهول إظهاراًَ لعظمته على طريق كلام القادرين ‏{‏كل نفس‏}‏ أي غالة وغير غالة ‏{‏ما كسبت‏}‏ أي ما لها فيه فعل ما من خير أو شر وافياً مبالغاً في تحريز وفائه ‏{‏وهم لا يظلمون *‏}‏ أي لا يقع عليهم ظلم في شيء منه بزيادة ولا نقص‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏162- 167‏]‏

‏{‏أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏162‏)‏ هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ‏(‏163‏)‏ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏164‏)‏ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏165‏)‏ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏166‏)‏ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ‏(‏167‏)‏‏}‏

ولما أخبر تعالى أنه لا يقع في ذلك اليوم ظلم أصلاً تسبب عنه الإنكار على من حدثته نفسه بالأماني الكاذبة، فظن غير ذلك من استواء حال المحسن وغيره، أو فعل فعلاً وقال قولاً يؤدي إلأى ذلك كالمنافقين وكالمقبلين على الغنيمة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أفمن اتبع‏}‏ أي طلب بجد واجتهاد ‏{‏رضوان الله‏}‏ أي ذي الجلال والإكرام بالإقبال على ما أمر به الصادق، فصار إلى الجنة ونعم الصبر ‏{‏كمن بآء‏}‏ أي رجع من تصرفه الذي يريد به الربح، أو حل وأقام ‏{‏بسخط من الله‏}‏ أي من الملك الأعظم بأن فعل ما يقتضي السخط بالمخالفة ثم الإدبار لولا العفو ‏{‏ومأواه جهنم‏}‏ أي جزاء بما جعل أسباب السخط مأواه ‏{‏وبئس المصير *‏}‏ أي هي‏.‏

ولما أفهم الإنكار على من سوّى بين الناس أنهم متمايزون صرح بذلك في قوله‏:‏ ‏{‏هم درجات‏}‏ أي متباينون تباين الدرجات‏.‏ ولما كان اعتبار التفاوت ليس بما عند الخلق قال‏:‏ ‏{‏عند الله‏}‏ أي الملك الأعلى في حكمه وعلمه وإن خفي ذلك عليكم، لأن الله سبحانه وتعالى خلقهم فهو عالم بهم حين خلقهم ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له جميع صفات الكمال ‏{‏بصير‏}‏ أي بالبصر والعلم ‏{‏بما يعملون *‏}‏ أي بعد إيجادهم، لأن ذلك أيضاً خلقه وتقديره، ولس لهم فيه إلا نسبته إليهم بالكسب، فهو يجازيهم بحسب تلك الأعمال، فكيف يتخيل أنه يساوي بينهم في المآل وقد فاوت بينهم في الحال وهو الحكم العدل‏!‏ فعلم بما في هذا الختام من إحاطته بتفاصيل الأعمال صحة ما ابتدئ به الكلام من التوفية‏.‏

ولما أرشدهم إلى هذه المراشد، وبين لهم بعض ما اشتملت عليه من الفوائد، وبان بهذه القصة قدر من أسدى إليهم ذلك على لسانه صلى الله عليه وسلم بما له من الفضائل التي من أعظمها كونه من جنسهم، يميل إليهم ويرحمهم ويعطف عليهم، فيألفونه فيعلمهم؛ نبه على ذلك سبحانه وتعالى ليستمسكوا بغرزه، ولا يلتفتوا لحظة عن لزوم هدية فقال سبحانه وتعالى- مؤكداً لما اقتضاه الحال من فعل يلزم منه النسبة إلى الغلول-‏:‏ ‏{‏لقد من الله‏}‏ أي ذو الجلال والإكرام ‏{‏على المؤمنين‏}‏ خصهم لأنهم المجتبون لهذه النعمة ‏{‏إذا بعث فيهم‏}‏ أي فيما بينهم أو بسببهم ‏{‏رسولاً‏}‏ وزادهم رغبة فيه بقوله‏:‏ ‏{‏من أنفسهم‏}‏ أي نوعاً وصنفاً، يعلمون أمانته وصيانته وشرفه ومعاليه وطهارته قبل النبوة وبعدها ‏{‏يتلوا عليهم آياته‏}‏ أي فيمحو ببركة نفس التلاوة كبيراً من شر الجان وغيرها مما ورد في منافع القرآن مما عرفناه، وما لم نعرفه أكثر ‏{‏ويزكيهم‏}‏ أي يطهرهم من أوضار الدنيا والأوزار بما يفهمه بفهمه الثاقب من دقائق الإشارات وبواطن العبارات، وقدم التزكية لاقتضاء مقام المعاتبة على الإقبال على الغنيمة ذلك، كما مضى في سورة البقرة ‏{‏ويعلمهم الكتاب‏}‏ أي تلاوة بكونه من نوعهم يلذ لهم التلقي منه ‏{‏والحكمة‏}‏ تفسيراً وإبانة وتحريراً ‏{‏وإن‏}‏ أي والحال أنهم ‏{‏كانوا‏}‏ ولما كانوا قد مرت لهم أزمان وهم على دين أبيهم إسماعيل عليه الصلاة والسلام نبه على ذلك بإدخال الجار فقال ‏{‏من قبل‏}‏ أي من قبل ذلك ‏{‏لفي ضلال مبين *‏}‏ أي ظاهر، وهو من شدة ظهوره كالذي ينادي على نفسه بإيضاح لبسه، وفي ذلك إشارة إلى أنه عليه السلام علمهم من الحكمة في هذه الوقعة ما أوجب نصرتهم في أول النهار، فلما خالفوه حصل الخذلان‏.‏

ولما أزال شبهة النسبة إلى الغلول بحذافيرها‏.‏ وأثبت ما له من أضدادها من معالي الشيم وشمائل الكرم صوب إلى شبهة قولهم‏:‏ لو كان رسولاً ما انهزم أصحابه عنه، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أولما‏}‏ أي أتركتم ما أرشدكم إليه الرسول الكريم الحليم العليم الحكيم ولما ‏{‏أصابتكم‏}‏ أي في هذا اليوم ‏{‏مصيبة‏}‏ لمخالفتكم لأمره وإعراضكم عن إرشاده ‏{‏قد أصبتم مثليها‏}‏ أي في بدر وأنتم في لقاء العدو وكأنما تساقون إلى الموت على الضد مما كنتم فيه في هذه الغزوة، وما كان ذلك إلا بامتثالكم لأمره وقبولكم لنصحه ‏{‏قلتم أنّى‏}‏ من أين وكيف أصابنا ‏{‏هذا‏}‏ أي بعد وعدنا النصر ‏{‏قل هو من عند أنفسكم‏}‏ أي لأن الوعد كان مقيداً بالصبر والتقوى، وقد تركتم المركز وأقبلتم على الغنائم قبل الأمر به، وعن علي رضي الله تعالى عنه أن ذلك باختيارهم الفداء يوم بدر الذي نزل فيه ‏{‏لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 68‏]‏ وأباح لهم سبحانه وتعالى الفداء بعد أن عاتبهم وشرط عليهم إن اختاروه أن يقتل منهم في العام المقبل بعدّ الأسرى، فرضوا وقالوا‏:‏ نستعين بما نأخذه منهم عليهم ثم نرزق الشهادة‏.‏ ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي لا كفوء له ‏{‏على كل شيء‏}‏ أي من النصر والخذلان ونصب أسباب كل منهما ‏{‏قدير *‏}‏ وقد وعدكم بذلك سبحانه وتعالى في العام الماضي حين خيركم فاخترتم الفداء، وخالف من خالف منكم الآن، فكان ذكر المصيبة التي كان سببها مخالفة ما رتبه صلى الله عليه وسلم بعد ختم الآية التي قبلها بالتذكير بما كانوا عليه من الضلال على ما ترى من البلاغة‏.‏

ولما كانت نسبة المصيبة إليهم ربما أوهمت من لم ترسخ قدمه في المعارف الإلهية أن بعض الأفعال خارج عما مراده تعالى قال‏:‏ ‏{‏وما أصابكم‏}‏ ولما استغرقت الحرب ذلك اليوم نزع الجار فقال‏:‏ ‏{‏يوم التقى الجمعان‏}‏ أي حزب الله وحزب الشيطان في أحد ‏{‏فبإذن الله‏}‏ أي بتمكين من له العظمة الكاملة وقضائه، وإثبات أن ذلك بإذنه نحو ما ذكر عند التولية يوم التقى الجمعان من نسبة الإحياء والإماتة إليه‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ ليؤدبكم به، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وليعلم المؤمنين *‏}‏ أي الصادقين في إيمانهم‏.‏ ولما كان تعليق العلم بالشيء على حدته أتم وآكد من تعليقه به مع غيره أعاد العامل لذلك، وإشعاراً بأن أهل النفاق أسفل رتبة من أن اجتمعوا مع المؤمنين في شيء فقال‏:‏ ‏{‏ولعلم الذين نافقوا‏}‏ أي علماً تقوم به الحجة في مجاري عاداتكم، وهذا مثل قوله هناك ‏{‏وليبتلي الله ما في صدوركم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 154‏]‏‏.‏ وعطف على قوله ‏{‏نافقوا‏}‏ ما أظهر نفاقهم، أو يكون حالاً من فاعل ‏{‏نافقوا‏}‏ فقال‏:‏ ‏{‏وقيل لهم تعالوا قاتلوا‏}‏ أي أوجدوا القتال ‏{‏في سبيل الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله بسبب تسهيل طريق الرب الذي شرعه ‏{‏أو ادفعوا‏}‏ أي عن أنفسكم وأحبائكم على عادة الناس لا سيما العرب ‏{‏قالوا لو نعلم‏}‏ أي نتيقن ‏{‏قتالاً‏}‏ أي أنه يقع قتال ‏{‏لاتبعناكم‏}‏ أي لكنه لا يقع فيما نظن قتال ورجعوا‏.‏

ولما كان هذا الفعل المسند إلى هذا القول ظاهراً في نفاقهم ترجمة بقوله‏:‏ ‏{‏هم للكفر يومئذ‏}‏ أي يوم إذ كان هذا حالهم ‏{‏أقرب منهم للإيمان‏}‏ عند كل من سمع قولهم أو رأى فعلهم، ثم علل ذلك أو استأنف بقوله- معبراً بالأفواه التي منها ما هو أبعد من اللسان لكونهم منافقين، فقولهم إلى أصوات الحيوان أقرب منه إلى كلام الإنسان ذي العقل واللسان لأنهم-‏:‏ ‏{‏يقولون بأفواههم‏}‏ ولما أفهم هذا أنه لا يجاوز ألسنتهم فلا حقيقة له ولا ثبات عندهم؛ صرح به في قوله ‏{‏ما ليس في قلوبهم‏}‏ بل لا شك عندهم في وقوع القتال، علم الله هذا منهم كما علموه من أنفسهم ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له الإحاطة الكاملة ‏{‏أعلم‏}‏ أي منهم ‏{‏بما يكتمون *‏}‏ أي كله لأنه يعلمه قبل كونه وهم لا يعلمونه إلا بعد كونه، وإذا كان نسوه بتطاول الزمان والله سبحانه وتعالى لا ينساه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏168- 172‏]‏

‏{‏الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏168‏)‏ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ‏(‏169‏)‏ فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏170‏)‏ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏171‏)‏ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏172‏)‏‏}‏

ولما حكى عنهم ما لا يقوله ذو إيمان أتبعه ما لا يتخيله ذو مروة ولا عرفان فقال مبيناً للذين نافقوا‏:‏ ‏{‏الذين قالوا لإخوانهم‏}‏ أي لأجل إخوانهم والحال أنهم قد أسلموهم ‏{‏وقعدوا‏}‏ أي عنهم خذلاناً لهم ‏{‏لو أطاعونا‏}‏ أي في الرجوع ‏{‏ما قتلوا‏}‏ ولما كان هذا موجباً للغضب أشار إليه بإعراضه في قوله‏:‏ ‏{‏قل‏}‏ أي لهؤلاء الأجانب الذين هم بمنزلة الغيبة عن حضرتي لما تسبب عن قولهم هذا من ادعاء القدرة على دفع الموت ‏{‏فادرءوا‏}‏ أي ادفعوا بعز ومنعة وميّلوا ‏{‏عن أنفسكم الموت‏}‏ أي حتى لا يصل إليكم أصلاً ‏{‏إن كنتم صادقين‏}‏ أي في أن الموت يغني منه حذر‏.‏ فقد انتظم الكلام بما قبل الجملة الواعظة أتم انتظام على أنه قد لاح لك أن ملائمة الجمل الواعظة لما قبلها وما بعدها ليس بدون ملاءمة ما قبلها من صلب القصة لما بعدها منه‏.‏

ولما أزاح سبحانه وتعالى العلل وشفى الغلل وختم بأنه لا مفر من القدر، فلم يبق عند أهل الإيمان إلا ما طبع عليه الإنسان من الأسف على فقد الإخوان، وكان سرور المفقود يبرد غلة الموجود بشرهم بحياتهم وما نالوه من لذاتهم؛ ولما كان العرب بعيدين قبل الإسلام من اعتقاد الحياة بعد الموت خاطب الذي لا ريب في علمه بذلك إشارة إلى أنه لا يفهمه حق فهمه سواه، كما أشار إليه قوله في البقرة ‏{‏ولكن لا تشعرون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 153‏]‏ فقال تعالى عاطفاً على قل محبباً في الجهاد، إزالة لما بغضه به المنافقون من أنه سبب الموت‏:‏ ‏{‏ولا تحسبن الذين قتلوا‏}‏ أي وقع لهم القتل في هذه الغزوة أو غيرها ‏{‏في سبيل الله‏}‏ أي الملك الأعظم، والله أعلم بمن يقتل في سبيله ‏{‏أمواتاً‏}‏ أي الآن ‏{‏بل‏}‏ هم ‏{‏أحياء‏}‏ وبين زيادة شرفهم معبراً عن تقربهم بقوله‏:‏ ‏{‏عند ربهم‏}‏ أي المحسن إليهم في كل حال، فكيف في حال قتلهم فيه حياة ليست كالحياة الدنيوية‏!‏ فحقق حياتهم بقوله ‏{‏يرزقون *‏}‏ أي رزقاً يليق بحياتهم ‏{‏فرحين بما آتاهم الله‏}‏ أي الحاوي لجميع الكمال من ذلك الفوز الكبير ‏{‏من فضله‏}‏ لأنه لو حاسبهم على أقل نعمة من نعمة لم توف جميع أعمالهم بها لأن أعمالهم من نعمه، فأعلمنا سبحانه وتعالى بهذا تسلية وحسن تعزية أن لم يفت منهم إلا حياة الكدر التي لا مطمع لأحد في بقائها وإن طال المدى، وبقيت لهم حياة الصفاء التي لا انفكاك لها ولا آخر لنعيمها بغم يلحقهم ولا فتنة تنالهم ولا حزن يعتريهم ولا دهش يلم بهم في وقت الحشر ولا غيره، فلا غفلة لهم، فكان ذلك مذهباً لحزن من خلفوه ومرغباً لهم في الأسباب الموصلة إلى مثل حالهم، وهذا- والله سبحانه وتعالى أعلم- معنى الشهادة، أي أنهم ليست لهم حال غيبة، لأن دائم الحياة بلا كدر أصلاً كذلك‏.‏

ولما ذكر سرورهم بما نالوه ذكر سرورهم بما علموه لمن هو على دينهم فقال‏:‏ ‏{‏ويستبشرون‏}‏ أي توجد لهم البشرى وجوداً عظيم الثبات حتى كأنهم يوجدونها كلما أرادوا ‏{‏بالذين لم يلحقوا بهم‏}‏ أي في الشهادة في هذه الغزوة‏.‏ ثم بين ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏من خلفهم‏}‏ أي في الدنيا‏.‏ ثم يبن المبشر به فقال‏:‏ ‏{‏ألاّ خوف عليهم‏}‏ أي على إخوانهم في آخرتهم ‏{‏ولا هم يحزنون *‏}‏ أي أصلاً، لأنه لا يفقد منه شيء، بل هم كل لحظة في زيادة، وهذا أعظم البشرى لمن تركوا على مثل حالهم من المؤمنين، لأنهم يلحقونهم في مثل ذلك، لأن السبب واحد، وهو منحة الله لهم بالقتل فيه، أو مطلق الإيمان لمطلق ما هم فيه من السعادة بغير قيد الشهادة‏.‏

ولما ذكر سرورهم لأنفسهم تارة ولإخوانهم أخرى كرره تعظيماً له وإعلاماً بأنه في الحقيقة عن غير استحقاق‏.‏ وإنما هو مجرد مَنّ فقال‏:‏ ‏{‏يستبشرون بنعمة من الله‏}‏ أي ذي الجلال والإكرام، كبيرة ‏{‏وفضل‏}‏ أي منه عظيم ‏{‏وأن الله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي لا يقدره أحد حق قدره ‏{‏لا يضيع أجر المؤمنين *‏}‏ أي منهم ومن غيرهم، بل يوفيهم أجرهم على أعمالهم ويفضل عليهم، ولو شاء لحاسبهم على سبيل العدل، ولو فعل ذلك لم يكن لهم شيء‏.‏

ولما ذم المنافقين برجوعهم من غير أن يصيبهم قرح، ومدح أحوال الشهداء ترغيباً في الشهادة، وأحوال من كان على مثل حالهم ترغيباً في النسج على منوالهم، وختم بتعليق السعادة بوصف الإيمان، أخذ يذكر ما أثمر لهم إيمانهم من المبادرة إلى الإجابة إلى ما يهديهم إليه صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أنه لم يحمل على التخلف عن أمره من غير عذر إلا صريح النفاق فقال‏:‏ ‏{‏الذين استجابوا‏}‏ أي أوجدوا الإجابة في الجهاد إيجاداً مؤكداً محققاً ثابتاً ما عندهم من خالص الإيمان ‏{‏لله والرسول‏}‏ أي لا لغرض مغنم ولا غيره، ثم عظم صدقهم بقوله- مثبتاً الجار لإرادة ما يأتي من إحدى الغزوتين إلا استغراق ما بعد الزمان-‏:‏ ‏{‏من بعد ما أصابهم القرح‏}‏‏.‏

ولما كان تعليق الأحكام بالأوصاف حاملاً على التحلي بها عند المدح قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏للذين أحسنوا‏}‏ وعبر بما يصلح للبيان والبعض ليدوم رغبهم ورهبهم فقال‏:‏ ‏{‏منهم واتقوا أجر عظيم *‏}‏ وهذه الآيات من تتمة هذه القصة سواء قلنا‏:‏ إنها إشارة إلى غزوة حمراء الأسد، أو غزوة بدر الموعد، فإن الوعد كان يوم أحد- والله الهادي، ومما يجب التنبيه له أن البيضاوي قال تبعاً للزمخشري‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى بدر الموعد في سبعين راكباً، وفي تفسير البغوي أن ذلك كان في حمراء الأسد، فإن حمل على أن الركبان من الجيش كان ذلك عددهم وأن الباقين كانوا مشاة فلعله، وإلا فليس كذلك، وأما في حمراء الأسد فإن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن المشركين هموا بعد انفصالهم من أحد بالرجوع، فأراد أن يرهبهم وأن يريهم من نفسه وأصحابه قوة، فنادى مناديه يوم الأحد- الغد من يوم أُحد- بطلب العدو وأن لا يخرج معه إلا من كان حاضراً معه بالأمس، فأجابوا بالسمع والطاعة، فخرج في أثرهم واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، ولا يشك في أنهم أجابوا كلهم، ولم يتخلف منهم أحد، وقد كانوا في أحد نحو سبعمائة ولم يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج معه لأحد لم يشهد القتال يوم أحد، واستأذنه رجال لم يشهدوها فمنعهم إلا ما كان من جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فإنه أذن له لعلة ذكرها في التخلف عن أحد محمودة‏.‏

قال الواقدي‏:‏ ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلوائه وهو معقود لم يحل من الأمس، فدفعه إلى علي رضي الله عنه، ويقال‏:‏ إلى أبي بكر رضي الله عنه، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه مشجوج وهو مجروح، في وجهه أثر الحلقتين، ومشجوج في جبهته في أصول الشعر، ورباعيته قد سقطت، وشفته قد كلمت من باطنها وهو متوهن منكبه الأيمن بضربة ابن قميئة، وركبتاه مجحوشتان بأبي هو وأمي ووجهي وعيني‏!‏ فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فركع ركعتين والناس قد حشدوا، ونزل أهل العوالي حيث جاءهم الصريخ، ثم ركع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، فدعا بفرسه على باب المسجد، وتلقاه طلحة رضي الله عنه وقد سمع المنادي فخرج ينظر متى يسير، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه الدرع والمغفر وما يرى منه إلا عيناه فقال‏:‏ يا طلحة سلاحك‏!‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ قريب، قال‏:‏ فأخرج، أعدو فألبس درعي ولأنا أهم بجراح رسول الله صلى الله عليه وسلم مني بجراحي، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على طلحة فقال‏:‏ «أين ترى القوم الآن‏؟‏ قال‏:‏ هم بالسيالة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ذلك الذي ظننت‏!‏ أما إنهم يا طلحة لن ينالوا منا مثل أمس حتى يفتح الله مكة علينا‏!‏» ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتى عسكر بحمراء الأسد، قال جابر رضي الله عنه‏:‏ وكان عامة زادنا التمر، وحمل سعد بن عبادة رضي الله عنه ثلاثين بعيراً حتى وافت الحمراء، وساق جزوراً فنحروا في يوم اثنين وفي يوم ثلاثاء، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرهم في النهار بجمع الحطب، فإذا أمسوا أمر أن توقد النيران، فيوقد كل رجل ناراً، فلقد كنا تلك الليالي نوقد خمسمائة نار حتى نرى من المكان البعيد، وذهب ذكر معسكرنا ونيراننا في كل وجه حتى كان ما كبت الله به عدونا فهنا ظاهر في أنهم كانوا خمسمائة رجل- والله أعلم- ويؤيده ذلك ما نقل من أخبار المثقلين بالجراح- قال الواقدي‏:‏ جاء سعد بن معاذ رضي الله عنه والجراح في الناس فاشية، عامة بني عبد الأشهل جريح، بل كلهم- رضي الله عنهم‏!‏ فقال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تطلبوا عدوكم، قال‏:‏ يقول أسيد بن حضير رضي الله عنه وبه سبع جراحات وهو يريد أن يداويها‏:‏ سمعاً وطاعة لله ولرسوله‏!‏ فأخذ سلاحه ولم يعرج على دواء جراحه ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وجاء سعد بن عبادة رضي الله عنه قومه بني ساعده فآمرهم بالمسير، فلبسوا ولحقوا، وجاء أبو قتادة رضي الله عنه أهل خربى وهم يداوون الجراح فقال‏:‏ هذا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم بطلب العدو، فوثبوا إلى سلاحهم وما عرجوا على جراحاتهم- رضي الله عنهم‏!‏ فخرج من بني سلمة رضي الله عنهم أربعون جريحاً، وبالطفيل بن النعمان رضي الله عنه ثلاثة عشر جرحاً، وبقطبه بن عامر بن حديدة رضي الله عنه تسع جراحات حتى وافوا النبي صلى الله عليه وسلم ببئر أبي عتبة إلى رأس الثنية عليهم السلاح، قد صفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نظر إليهم والجراح فيهم فاشية قال‏:‏

«اللهم ارحم بني سلمة‏!‏» وحدث ابن إسحاق والواقدي أن عبد الله بن سهل ورافع بن سهل رضي الله عنهما كان بهما جراح كثيرة، فلما بلغهما النداء قال أحدهما لصاحبه‏:‏ والله إن تركنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لغَبنا والله ما عندنا دابة نركبها وما ندري كيف نصنع‏!‏ قال عبد الله‏:‏ انطلق بن، قال رافع‏:‏ لا والله ما بي مشي‏!‏ قال أخوه‏:‏ انطلق بنا نتجارّ، فخرجا يزحفان فضعف رافع فكان عبد الله يحمله على ظهره عقبة ويمشي الآخر عقبة حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العشاء وهو يوقدون النيران، فأتى بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى حرسه تلك الليلة عباد بن بشر فقال‏:‏ «ما حبسكما‏؟‏ فأخبراه بعلتهما، فدعا لهما بخير وقال‏:‏ إن طالت بكم مدة كانت لكم مراكب من خيل وبغال وإبل، وليس ذلك بخير لكم» وأما غزوة بدر الموعد فروى الواقدي- ومن طريقه الحاكم في الإكليل- كما حكاه ابن سيد الناس قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج في هذه الغزوة في ألف وخمسمائة من أصحابه رضي الله عنهم، وكان الخيل عشرة قال الواقدي‏:‏ وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر أهل الموسم‏:‏ يا محمد‏!‏ لقد أخبرنا أنه لم يبق منكم أحد، فما أعلمكم إلا أهل الموسم‏!‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم- «ليرفع ذلك إلى عدوه‏:‏ ما أخرجنا إلا موعد أبي سفيان وقتال عدونا، وإن شئت مع ذلك نبذنا إليك وإلى قومك العهد ثم جالدناكم قبل أن نبرح من منزلنا هذا، فقال الضمري‏:‏ بل نكف أيدينا عنكم ونتمسك بحلفك»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏173- 178‏]‏

‏{‏الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ‏(‏173‏)‏ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ‏(‏174‏)‏ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏175‏)‏ وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏176‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏177‏)‏ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏178‏)‏‏}‏

ولما كان قول نعيم بن مسعود أو ركب عبد القيس عند الصحابة رضي الله عنهم صدقاً لا شك فيه لما قام عندهم من القرائن، فكان بمنزلة المتواتر الذي تمالأ عليه الخلائق، وكانت قريش أعلى الناس شجاعة وأوفاهم قوة وأعرقهم أصالة فكانوا كأنهم جميع الناس، كان التعبير- بصيغة في قوله‏:‏ ‏{‏الذين قال لهم الناس‏}‏ أي نعيم أو ركب عبد القيس ‏{‏إن الناس‏}‏ يعني قريشاً ‏{‏قد جمعوا لكم فاخشوهم‏}‏ أمدح للصحابة رضي الله عنهم من التعبير عمن أخبرهم ومن جمع لهم بخاص اسمه أو وصفه‏.‏

ولما كان الموجب لأقدامهم على اللقاء بعد هذا القول الذي لم يشكوا في صدقه ثبات الإيمان وقوة الإيقان قال تعالى‏:‏ ‏{‏فزادهم‏}‏ أي هذا القول ‏{‏إيماناً‏}‏ لأنه ما ثناهم عن طاعة الله ورسوله ‏{‏وقالوا‏}‏ ازدراء بالخلائق اعتماداً على الخالق ‏{‏حسبنا‏}‏ أي كافينا ‏{‏الله‏}‏ أي الملك الأعلى في القيام بمصالحنا‏.‏ ولما كان ذلك هو شأن الوكيل وكان في الوكلاء من يذم قال‏:‏ ‏{‏ونعم الوكيل *‏}‏ أي الموكول إليه المفوض إليه جميع الأمور؛ روى البخاري في التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ «هذه الكلمة قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا‏:‏ إن الناس قد جمعوا لكم‏.‏ وقال‏:‏ كان آخر كلمة قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار‏:‏ حسبي الله ونعم الوكيل»‏.‏ ولما كان اعتمادهم على الله سبباً لفلاحهم قال ‏{‏فانقلبوا‏}‏ أي فكان ذلك سبباً لأنهم انقلبوا، أي من الوجه الذي ذهبوا فيه مع النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏بنعمة‏}‏ وعظمها بإضافتها إلى الاسم الأعظم فقال‏:‏ ‏{‏من الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله ‏{‏وفضل‏}‏ أي من الدنيا ما طاب لهم من طيب الثناء بصدق الوعد ومضاء العزم وعظيم الفناء والجرأة إلى ما نالوه‏.‏ عند ربهم حال كونهم ‏{‏لم يمسسهم سوء‏}‏ أي من العدو خوفوه ولا غيره ‏{‏واتبعوا‏}‏ أي مع ذلك بطاعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بغاية جهدهم ‏{‏رضوان الله‏}‏ أي الذي له الجلال والجمال فحازوا أعظم فضله ‏{‏والله‏}‏ أي الذي لا كفوء له ‏{‏ذو عظيم *‏}‏ أي في الدارين على من يرضيه، فستنظرون فوق ما تؤملون، فليبشر المجيب ويغتم ويحزن المتخلف، ولعظم الأمر كرر الاسم الأعظم كثيراً‏.‏

ولما جزاهم سبحانه على أمثال ذلك بما وقع لهم من فوزهم بالسلامة والغنيمة بفضل من حاز أوصاف الكمال وتنزه عن كل نقص بما له من رداء الكبرياء والجلال، ورغبهم فيما لديه لتوليهم إياه، أتبع ذلك بما يزيدهم بصيرة من أن المخوف لهم مَن كيده ضعيف وأمره هين خفيف واهٍ سخيف وهو الشيطان، وساق ذلك مساق التعليل لما قبله من حيازتهم للفضل وبعدهم عن السوء بأن وليهم الله وعدوهم الشيطان فقال التفاتاً إليهم بزيادة في تنشيطهم أو تشجيعهم وتثبيتهم‏:‏ ‏{‏إنما ذلكم‏}‏ أي القائل الذي تقدم أنه الناس ‏{‏الشيطان‏}‏ أي الطريد البعيد المحترق‏.‏

ولما نسب القول إلأيه لأنه الذي زينه لهم حتى أشربته القلوب وامتلأت به الصدور، كان كأنه قيل‏:‏ فماذا عساه يصنع‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏يخوف‏}‏ أي يخوفكم ‏{‏أولياءه‏}‏ لكنه أسقط المفعول الأول إشارة إلى أن تخويفه يؤول إلى خوف أوليائه، لأنه أولياء الرحمن إذا ثبتوا لأجله أنجز لهم ما وعدهم من النصرة على أولياء الشيطان، وإلى أن من خاف من تخويفه وعمل بموجب خوفه ففيه ولاية له تصحح إضافته إليه قلت أو كثرت‏.‏

ولما كان المعنى أنه يشوش بالخوف من أوليائه، تسبب عنه النهي عن خوفهم فقال‏:‏ ‏{‏فلا تخافوهم‏}‏ أي لأن وليهم الشيطان ‏{‏وخافون‏}‏ أي فلا تعصوا أمري ولا تتخلفوا أبداً عن رسولي ‏{‏إن كنتم مؤمنين *‏}‏ أي مباعدين لأولياء الشيطان بوصف الإيمان‏.‏

ولما مدح سبحانه وتعالى المسارعين في طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وختم ذلك بالنهي عن الخوف من أولياء الشيطان، أعقبه بذم المسارعين في الكفر والنهي عن الحزن من أجلهم‏.‏

ولما كان أكثر الناس- كالمنافقين الراجعين عن أحد، ثم المقاتلين القائلين‏:‏ هل لنا من الأمر من شيء- أرجفوا إلى أبي عامر وعبد الله بن أبيّ لأخذ الأمان من أبي سفيان، ثم ركب عبد القيس أو نعيم بن مسعود، ثم من استجاب من أهل المدينة وأرجف بما قالوا في ثبط المؤمنين، وكان ذلك مما يخطر بالبال تمادي أيام الكفر وأهله غالبِين، ويقدح في رجاء قصر مدته، ويوجب الحزن على ذلك، قال تعالى قاصراً الخطاب على أعظم الخلق وأشفقهم وأحبهم في صلاحهم ‏{‏ولا يحزنك الذين يسارعون‏}‏ أي يسرعون إسراع من يسابق خصماً ‏{‏في الكفر‏}‏ ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏إنهم لن يضروا الله‏}‏ أي الذي له جميع العظمة ‏{‏شيئاً‏}‏ أي دينه بإذلال أنصاره والقائمين به، وحذف المضاف تفخيماً له وترغيباً فيه حيث جعله هو المضاف إليه‏.‏

ولما نفى ما خيف من أمرهم كان مظنة السؤال عن الحاكم لهم على المسارعة فقيل جواباً‏:‏ ‏{‏يريد الله‏}‏ أي الذي له الأمر كله ‏{‏ألاّ يجعل لهم حظاً‏}‏ أي نصيباً ‏{‏في الآخرة‏}‏ ولما كانت المسارعة في ذلك عظيمة ختمت الآية بقوله‏:‏ ‏{‏ولهم عذاب عظيم *‏}‏ قد عم جميع ذواتهم، لأن المسارعة دلت على أن الكفر قد ملأ أبدانهم ونفوسهم وأرواحهم‏.‏

ولما كان قبول نعيم وركب عبد القيس لذلك الجعل الذي هو من أسباب الكفر شرى الكفر بالإيمان عقب بقوله‏:‏ ‏{‏إن الذين اشتروا الكفر‏}‏ أي فأخذوه ‏{‏بالإيمان‏}‏ أي فتركوه، وأكد نفي الضرر وأبده فقال‏:‏ ‏{‏لن يضروا الله‏}‏ أي الذي لا كفوء له ‏{‏شيئاً‏}‏ لما يريد سبحانه وتعالى من الإعلاء للإسلام وأهله، وختمها بقوله‏:‏ ‏{‏ولهم عذاب أليم *‏}‏ لما نالوه من لذة العوض في ذلك الشرى كما هي العادة في كل متجدد من الأرباح والفوائد‏.‏

ولما كان مما اشترى به الكفر رجوع المنافقين عن أحد الذي كان سبباً للإملاء لهم قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏ولا يحسبن الذين كفروا‏}‏ أي بالله ورسوله ‏{‏إنما نملي‏}‏ أي أن إملاءنا أي إمهالنا وإطالتنا ‏{‏لهم خير لأنفسهم‏}‏ ولما نفى عنهم الخير بهذا النهي تشوفت النفس إلى ما لهم فقال‏:‏ ‏{‏إنما نملي لهم‏}‏ أي استدراجاً ‏{‏ليزدادوا إثماً‏}‏ وهو جميع ما سبق العلم الأزلي بأنهم يفعلونه، فإذا بلغ النهاية أوجب الأخذ‏.‏ ولما كان الرجوع المسفر عن السلامة مظنة لعزهم في هذه الدار الفانية عند من ظن حسن ذلك الرأي؛ عوضوا عنه الإهانة الدائمة فقال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏ولهم عذاب مهين *‏}‏‏.‏